روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَقَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞ} (6)

{ وَقَالُواْ } شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب المتضمن للكفر به وبيان ما يؤول إليه حالهم ، والقائل أهل مكة قال مقاتل : نزلت الآية في عبد الله بن أمية . والنضر بن الحرث . ونوفل بن خويلد . والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي القرآن ، وخاطبوه عليه الصلاة والسلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاءً وتهكماً وإشعاراً بعلة حكمهم الباطل في قولهم : { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه ، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاماً يستبعده : أنت مجنون ، وقيل : حكمهم هذا لما يظهر عليه عليه الصلاة والسلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن ، والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام ، وذهب بعضهم إلى أن المقول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام الله تعالى تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه من أول الأمر . وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] الخ فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم ، وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم . وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وتقديم الجار والمجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكراً من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام .

وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل . وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف { نَزَّلَ } مبنياً للفاعل ورفع { الذكر } على الفاعلية ، وقرىء { وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } . قال أبو حيان : وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَقَالُواْ يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] رموه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم ، والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون ؛ وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات ، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم