روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} (9)

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماءً إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان : الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولاً أولياً ، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه ، وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة ، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الإسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل ، ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً ، وإلى هذا أشار في «الكشاف » ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقاً لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني ؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقاً لإثبات محفوظية الذكر أولاً وآخراً ، وأجاب بأنه جيءَ به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور أما ما هو أن يكون دليلاً على أنه منزل من عند الله تعالى آية ، فالأول وإن كان رداً كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظاً عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام ، وذلك لأنه نظمه لما كان معجزاً لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في «الكشف » : ، وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر .

وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سبباً لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى ، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل ، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب . واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان ، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا : إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل . واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجيب ما نقله عن أصحابه حيث قال : قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه ، ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال ، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد { وَنَحْنُ } ليس فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن ، ويعلم مما قررنا أن ضمير { لَهُ } للذكر وإليه ذهب مجاهد .

وقتادة . والأكثرون وهو الظاهر ، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وأنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] والمعول عليه الأول ، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى :

( ومن باب الإشارة ) :{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ الحجر : 9 ] قال ابن عطاء : أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبياناً للهدى فينتفع به من كان موسوماً بالسعادة منوراً بتقديس السر عن دنس المخالفة { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا