{ مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير . وقتادة ، وقيده في «البحر » بقوله : بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف ، وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء وأنشد :
بدجلة دارهم ولقد أراهم . . . بدجلة مهطعين إلى السماع
وقال مجاهد : مد يمين النظر لا يطرفون ، وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذلك وخشوع لا يقلع بصره ، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه ، وقيل : إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق ، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وأن كل المعاني تدور على الإقبال { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء ، قاله ابن عرفة . والقتيبي .
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلاً ترعى أعلا الشجر :
يباكرن العضاة بمقنعات . . . نواجذهن كالحد الوقيع
وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال : فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر ، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضاً وأنشد له قول زهير :
هجان وحمر مقنعات رؤسها . . . وأصفر مشمول من الزهر فاقع
/ ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد ، قال المبرد . وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه ، وقيل : ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال : وقد يقال : إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده ، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناءً على أنه يقال : شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء ، وجوز أن يكون { مُهْطِعِينَ } منصوباً بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين و { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } على هذا قيل : حال من المستتر في { مُهْطِعِينَ } فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالاً ؛ وقال بعض الأفاضل : إن في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولاً ما لا يخفى من البعد والتكلف ، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالاً مقدرة من مفعول { يُؤَخِرُهُمْ } [ إبراهيم : 42 ] وقوله سبحانه : { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] بيان حال عموم الخلائق . ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية ، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات ، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين { مُهْطِعِينَ } و { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] على بعض التفاسير ، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول ، وقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إليهم طَرْفُهُمْ } بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة ، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن ، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها .
وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازاً لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف ، وقال الجوهري : الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحداً ويكون جمعاً وذكر الآية ، وفسره بذلك أبو حيان أيضاً وأنشد قول الشاعر :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي . . . حتى يوارى جارتي مأواها
وليس ما ذكر متعيناً فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر ، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلاً عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين ، ولا ينبغي كما في «الكشف » أن يتخيل تعلق { إِلَيْهِمُ } بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم ، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية ، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع ، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعاً هذا ، وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين { مُهْطِعِينَ } و { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول { يُؤَخِرُهُمْ } [ إبراهيم : 42 ] على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأساً بين { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته . وفي إرشاد العقل السليم أن جملة { لاَ يَرْتَدُّ } الخ حال أو بدل من { مُقْنِعِى } الخ أو استئناف ؛ والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى ، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار ، وفي انفهام لا يزول الخ من ظاهر التركيب خفاء ، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا ، فاعترض عليه بلزوم المنافاة ، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وأن أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم ، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرىء القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معا . . . كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا ، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب ، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار ، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل .
{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه قيل للجبان ، والأحمق : قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه ، ومن ذلك قول زهير :
كأن الرحل منها فوق صعل . . . من الظلمان جؤجؤه هواء
ألا بلغ أبا سفيان عني . . . فأنت مجوف نخب هواء
وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة . وسفيان ، وقال ابن جريج : صفر من الخير خالية منه ، وتعقب بأنه لا يناسب المقام . وأخرج ابن أبي شيبة . وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال : أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه ، والجملة في موضع الحال أيضاً والعامل فيها إما { يَرْتَدَّ } أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل . وجوز أن تكون جملة مستقلة ، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر { هَوَاء } بفارغة ، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبراً لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبراً عن جمع كما يقال : أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم ، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة ، وقال مولانا الشهاب : الهواء مصدر ولذا أفرد ، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح للحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء ، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير أعمال مروحة الفكر ، ففي «البحر » بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة . ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة . وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وإنها تجىء وتذهب وتبلغ الحناجر . وهذا في معنى ما روي آنفاً عن ابن جبير . وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضاً حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولاً : كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ؛ ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } [ إبراهيم : 41 ] وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور . وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل .
( هذا ومن باب الإشارة ) :وقوله سبحانه : { مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء } [ إبراهيم : 43 ] شرح لأحوال أصحاب الأبصار الشاخصة وهم سكارى المبحة على الحقيقة ، قال ابن عطاء في : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } هذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.