روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ} (43)

{ مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير . وقتادة ، وقيده في «البحر » بقوله : بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف ، وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء وأنشد :

بدجلة دارهم ولقد أراهم . . . بدجلة مهطعين إلى السماع

وقال مجاهد : مد يمين النظر لا يطرفون ، وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذلك وخشوع لا يقلع بصره ، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه ، وقيل : إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق ، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وأن كل المعاني تدور على الإقبال { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء ، قاله ابن عرفة . والقتيبي .

وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلاً ترعى أعلا الشجر :

يباكرن العضاة بمقنعات . . . نواجذهن كالحد الوقيع

وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال : فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر ، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضاً وأنشد له قول زهير :

هجان وحمر مقنعات رؤسها . . . وأصفر مشمول من الزهر فاقع

/ ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد ، قال المبرد . وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه ، وقيل : ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال : وقد يقال : إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده ، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناءً على أنه يقال : شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء ، وجوز أن يكون { مُهْطِعِينَ } منصوباً بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين و { مُقْنِعِى * رُؤُوسَهُمْ } على هذا قيل : حال من المستتر في { مُهْطِعِينَ } فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالاً ؛ وقال بعض الأفاضل : إن في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولاً ما لا يخفى من البعد والتكلف ، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالاً مقدرة من مفعول { يُؤَخِرُهُمْ } [ إبراهيم : 42 ] وقوله سبحانه : { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] بيان حال عموم الخلائق . ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية ، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات ، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين { مُهْطِعِينَ } و { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] على بعض التفاسير ، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول ، وقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إليهم طَرْفُهُمْ } بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة ، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن ، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها .

وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازاً لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف ، وقال الجوهري : الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحداً ويكون جمعاً وذكر الآية ، وفسره بذلك أبو حيان أيضاً وأنشد قول الشاعر :

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي . . . حتى يوارى جارتي مأواها

وليس ما ذكر متعيناً فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر ، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلاً عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين ، ولا ينبغي كما في «الكشف » أن يتخيل تعلق { إِلَيْهِمُ } بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم ، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية ، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع ، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعاً هذا ، وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين { مُهْطِعِينَ } و { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول { يُؤَخِرُهُمْ } [ إبراهيم : 42 ] على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأساً بين { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } [ إبراهيم : 42 ] وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته . وفي إرشاد العقل السليم أن جملة { لاَ يَرْتَدُّ } الخ حال أو بدل من { مُقْنِعِى } الخ أو استئناف ؛ والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى ، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار ، وفي انفهام لا يزول الخ من ظاهر التركيب خفاء ، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا ، فاعترض عليه بلزوم المنافاة ، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وأن أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم ، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرىء القيس :

مكر مفر مقبل مدبر معا . . . كجلمود صخر حطه السيل من عل

وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا ، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب ، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار ، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل .

{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه قيل للجبان ، والأحمق : قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه ، ومن ذلك قول زهير :

كأن الرحل منها فوق صعل . . . من الظلمان جؤجؤه هواء

وقول حسان :

ألا بلغ أبا سفيان عني . . . فأنت مجوف نخب هواء

وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة . وسفيان ، وقال ابن جريج : صفر من الخير خالية منه ، وتعقب بأنه لا يناسب المقام . وأخرج ابن أبي شيبة . وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال : أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه ، والجملة في موضع الحال أيضاً والعامل فيها إما { يَرْتَدَّ } أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل . وجوز أن تكون جملة مستقلة ، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر { هَوَاء } بفارغة ، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبراً لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبراً عن جمع كما يقال : أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم ، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة ، وقال مولانا الشهاب : الهواء مصدر ولذا أفرد ، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح للحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء ، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير أعمال مروحة الفكر ، ففي «البحر » بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة . ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة . وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وإنها تجىء وتذهب وتبلغ الحناجر . وهذا في معنى ما روي آنفاً عن ابن جبير . وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضاً حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولاً : كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ؛ ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } [ إبراهيم : 41 ] وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور . وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل .

( هذا ومن باب الإشارة ) :وقوله سبحانه : { مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء } [ إبراهيم : 43 ] شرح لأحوال أصحاب الأبصار الشاخصة وهم سكارى المبحة على الحقيقة ، قال ابن عطاء في : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } هذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره