روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ} (76)

{ جنات عَدْنٍ } بدل من { الدرجات العلى } [ طه : 75 ] أو بيان وقد تقدم في عدن { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } حال من الجنات ، وقوله تعالى : { خالدين فِيهَا } تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في { لهم } [ طه : 75 ] ، والعالم فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في { أولئك } [ طه : 75 ] من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون { جنات } خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال ما ذكره أبو البقاء { وَذَلِكَ } إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير إليه من قرب من التفخيم { جَزَاء مَن تزكى } أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر فيمن الايمان والأعمال الصالحة .

وهذا تصريح بما أفادته الشرطية ، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه رداً على ما ادعاه فرعون بقوله : { أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } [ طه : 71 ] ، وقال بعضهم : إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافاً لما حسبه النيسابوري .

هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا : مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة إن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد .

وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيراً ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى : { يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين * مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ } إلى قوله سبحانه : { وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين } [ المدثر : 40 - 46 ] وقوله تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 29 ] إلى آخر السورة ، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقاً ، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمناً الخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم { ومِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات } [ طه : 75 ] ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضاً إذ لا قائل بالفرق ، فإذا قالوا : مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفى المنزلة بين الايمان والكفر بما هو مذكور في محله .

وعلى تقدير تسليم أن { مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً } [ طه : 75 ] الخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال : إن قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ لهم الدرجات العلى } [ طه : 75 ] يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالايمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الايمان .

ولقد أخرج أبو داود . وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر . وعمر منهم . وأنعما » واستدل على شمول { مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً } [ طه : 75 ] صاحب الكبيرة بقوله تعالى : { وذلك جَزَاء مَن تزكى } بناء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم .

ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل : إنه يموت احتجاجاً بما أخرج مسلم . وأحمد . وابن أبي حاتم . وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه { مَن يَأْتِ } الخ فقال عليه الصلاة والسلام : أما أهلها يعني جهنم الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل » وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيداً لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] ، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم .

وقال بعضهم : إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب ، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي في التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيداً بالعصا قتلاً والمراد ضربته ضرباً شديداً ولا يصح أن يقال : المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعاً من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قلي :

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

واستدل المجسمة بقوله سبحانه { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ } [ طه : 74 ] على ثبوت مكان له تعالى شأنه ، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك .