محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ} (76)

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى } أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة .

لطائف :

من ( الكشاف ) ( وحواشيه للناصر ) .

الأولى : في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم واستعمال أدب حسن معه ، وتواضع له وخفض جناح . وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم . وكأن الله عز وجل ألهمهم ذلك ، وعلم موسى – صلوات الله عليه – اختيار إلقائهم ، أولا ، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب ، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر ، فيستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم . فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه ، وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية نيرة للناظرين . وعبرة بينة للمعتبرين . قبل ذلك تأدبوا معه بقولهم : { فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه } ففوضوا ضرب الموعد إليه . وكما ألهم الله عز وجل موسى هاهنا ، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ، ليكون إلقاؤه العصا ، بعد ، قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، كذلك ألهمه من الأول ، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد ، ليكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم .

الثانية : جوز في إيثار قوله تعالى : { وما في يمينكم } على { عصاك } وجهان : أحدهما – أن يكون تعظيما لها . أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثرة . فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها . وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده . فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها . وثانيهما أن يكون تصغيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم . وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك . فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها . وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة ، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى . لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى ، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة ؟

ولأصحاب البلاغة طرق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ، للزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه . فصغر الله أمر العصا ، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين .

واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين – التعظيم والتحقير – وتلك ، والله أعلم ، هي إرادة المذكور مبهما . لأن { ما في يمينك } أبهم من { عصاك } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام ، والإجمال ، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته ، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه . ومرة لتعظيم شأنه ، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان ، يعني فيه الرمز والإشارة . فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا .

ثم قال الناصر : وعندي في الآية وجه سوي قصد التعظيم والتحقير . والله أعلم . وهو : أن موسى عليه السلام ، أول من علم أن العصا آية من الله تعالى عندما سأله عنها بقوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } ثم أظهر له تعالى آيتها ، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها ، قال تعالى { وألق ما في يمينك } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له : { وما تلك بيمينك } وقد أظهر له آيتها ، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا ، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها . وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } ؟ انتهى

ولأبي حيان نكتة أخرى ، وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة . ولا يقال جاء في سورة الأعراف { ألق عصاك } والقصة واحدة . لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا وحكاية ما جاء بالمعنى .

هذا وقال الشهاب الخفاجي : فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادف له ، يجري فيه ما يجري فيه . والأول خلاف الواقع . والثاني دونه خرط القتاد ، فتأمل .

أقول إنما استبعد الثاني ، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية . مع أن الأمر ليس كذلك وحينئذ فيتعين الثاني . وهو ظاهر . وبه تستعاد تلك اللطائف .