الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ} (76)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فأُولَئِكَ لَهُمُ الدّرَجاتُ العُلَى". ثم بين تلك الدرجات العلى ما هي، فقال: هن "جَنّاتُ عَدْنٍ "يعني: جنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاد لها ولا فناء "تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ "يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار "خالِدِينَ فِيها" يقول: ماكثين فيها إلى غير غاية محدودة... وقوله: "وَذلكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى" يقول: وهذه الدرجات العُلى التي هي جنات عدن على ما وصف جلّ جلاله ثواب من تزكى، يعني: من تطهر من الذنوب، فأطاع الله فيما أمره، ولم يدنس نفسه بمعصيته فيما نهاه عنه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"جنات عدن" أي: بساتين إقامة... "تزكى" تطهر من الذنوب بالطاعة بدلا من تدنيسها بالمعصية. والخلود المكث في الشيء إلى غير غاية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم بينوها بقولهم: {جنات عدن} أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها {تجري من تحتها الأنهار} أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى؛ ثم بين بقوله: {خالدين فيها} أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة.

ولما أرشد السياق و العطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير: ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين، لتزكيتهم أنفسهم، عطف عليه قوله: {وذلك جزاء} كل {من تزكى} أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول هذه السورة إذ كانوا مستضعفين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

جنات للإقامة ندية بما يجري تحت غرفاتها من أنهار (وذلك جزاء من تزكى) وتطهر من الآثام.

وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر، وواجهته بكلمة الإيمان القوية. وباستعلاء الإيمان الواثق. وبتحذير الإيمان الناصع. وبرجاء الإيمان العميق.

ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية إعلانا لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض وسلطان الأرض، وعلى الطمع، في المثوبة والخوف من السلطان. وما يملك القلب البشري أن يجهر بهذا الإعلان القوي إلا في ظلال الإيمان.

وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد آخر وحلقة من القصة جديدة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخضرة والخصب والإيناع، و {من تحتها}: أي: أن الماء ذاتي فيها، ونابع منها، ليس جاريا إليك من مكان آخر، ربما يمنع عنك أو تحرم منه. لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {تَجْرِي تَحْتهَا الْأَنْهَارُ.. (100)} (التوبة): فتحتها أنهار جارية، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر. ونسب الجريان إلى النهر، لا إلى الماء للمبالغة، فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء. ثم يقول تعالى: {خالدين فيها}: وهذا هو التأمين الحق للنعيم؛ لأن آفة النعم أن تزول، إما بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي، أما نعيم الجنة فقد سلمه الله تعالى من هذه الآفة، فهو خالد باق، لا يزول ولا يزال عنه. {وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}: الزكاة: تطلق على الطهارة وعلى النماء، فالطهارة: أن يكون الشيء في ذاته طاهرا، والنماء: أن توجد فيه خصوصية نمو فيزيد عما تراه أنت عليه...

فمعنى: {وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}: أي: تطهر من المعاصي، ثم نمى نفسه، ومعنى التنمية ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق، فهو مؤمن بداية، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقى يوما بعد يوم، وكلما ازداد إيمانه ازداد قربه من ربه، وازدادت فيوضات الله عليه. والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. إذن: زكى نفسه: طهرها أولا، ثم ينميها ثانيا، كمن يريد التجارة، فعليه أولا أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم ينميه، لكن لا تأتي برأس المال مدنسا ثم تنميه بما فيه من دنس. وكلما نمى الإنسان إيمانه ارتقى في درجاته، فكانت له الدرجات العلا في الآخرة.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه القرآن للمجاهدين الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب، ليتنازلوا عن مواقفهم، وليتركوا مواقعهم، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة، فيتعلمون من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون من مال وسطوة وجاه، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، والتزموا بالله وتركوا فرعون، فلم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء، أمام الآخرة التي تمثل لهم كل شيء.