روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (43)

وقوله تعالى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه ، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماماً به وزيادة ترغيب فيه ، فالصبر هنا هو الاصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هنا ، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولى العزم وإشارة إلى أن الاصلاح بالعفو والإغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز ، و «ذلك » إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة ، و { عَزْمِ الامور } الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة ، وجوز في { مِنْ } أن تكون موصولة وأن تكون شرطية ، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون فسمية واكتفي بجواب القسم عن جواب الشرط ، وإذا جعلت اللام للابتداء و { مِنْ السماء والأرض إِنَّ ذلك } جواب الشرط وحذفت الفاء منها ، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه ، وذكر جماعة أن في الكلام حذفاً أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور ، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و { ذلك } لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة ، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو { ذلك } رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف .

هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلية الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين ودن المشاكلة ، وزعم أن المجازي مسيء وبنى على ذلك ربط جملة { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } [ الشورى : 40 ] بما قبل فقال : يكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } ( الشورى 40 ) والمسيء في هذا المقام مفسداً لما في البيت بدليل { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } كأنه قيل : من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطاً إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالماً نفسه { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } فالآية واردة إرشاداً للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين .

وقال : إن قوله تعالى : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظالمة } [ الشورى : 41 ] الخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } [ الشورى : 42 ] حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به { يَظْلِمُونَ الناس } وفسره بقوله تعالى : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } وكذا قوله سبحانه : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } الخ تعليم لهم أيضاً طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى ، ولا يخفي ما فيه .

وفي «الكشف » أن جعل ما ذكر خطاباً للولاة والحكام يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه ، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم ، أخرج البيهقي في «شعب الإيمان » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال موسى ابن عران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك ؟ قال : من إذا قدر غفر " وأخرج ابن أبي حاتم . وابن مردويه . والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا : ومن ذا الذي أجره على الله تعالى ؟ قال : العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوا الجنة بغير حساب "

وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله : فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال : إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله : وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام : " ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة " استشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر ، وكذا لا يعد لوما كما لا يخفي .

ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلاً ، وقيل : هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالاً بل لاح عليه صلى الله عليه وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيآت المقربين .

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم ، أخرج النسائي . وابن ماجه . وابن مردويه . عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخلت على زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي : سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً ، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيزاً لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقاً في الرد ورأي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل .

وظاهر قوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] يقتضي رعاية المماثلة مطلقاً ، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة فيها على المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الاجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص .

والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس ، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب .

وعن مجاهد . والسدي إذا قال له : أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفاً يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به ، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغي مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه ، وفي «مجمع الفتاوي » جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } والعفو أفضل { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] وقال ابن الهمام : الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا : لو قال له : يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال : بل أنت لا بأس .

وفي «التنوير » وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضاً يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص ، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه ، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضاً حقاً لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا ، ويترجح عندي أن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سبباً للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم .