محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (43)

{ ولمن صبر } أي على الأذى { وغفر } أي لمن ظلمه ولم ينتصر { إن ذلك لمن عزم الأمور } أي التي ندب الله عباده ، وعزم عليهم العمل بها .

تنبيه :

نقل السيوطيّ في ( الإكليل ) عن الكيا الهراسيّ أنه قال : قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه ، وظاهر هذه الآية { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } أن الانتصار أفضل . قال ، وهو محمول على من تعدى وأصرّ ، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين . وآيات العفو فيمن ندم وأقلع . انتهى . وعجيب فهمه الأفضلية من الآية ، فإنها لا تدل عليه ، عبارة ولا إشارة . فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار . وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا . ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة . ثم بين أن العفو أولى ، وهو الذي انتهى إليه الكلام ، وتم به السياق . وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى . وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل ، ودفع الظلم عن النفس والصغار ، ورفع الأحقاد والأضغان . وأما العفو والصفح ، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس . لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق ، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين . وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية ، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليا ، لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا وتفريطا . والدين دين الفطرة . وهي تتقاضى القصاص بالمثل ، وتراه حقا لها بجبلّتها والقضاء الأدبيّ والوازع الرحمانيّ يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت ، ويبرهن لها أمثليته ، ما لا يبعد ، إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها ، أن تؤثره ولا تؤثر عليه . كيف ؟ وقد دل قوله تعالى { إنه لا يحب الظالمين } كما قال الزمخشريّ ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء ، خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية . فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر .