روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (43)

{ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي فلم يتضرعوا حينئذٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به ، ولولا عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } [ يونس : 98 ] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وليست لولا هنا تحضيضية كما تتوهم لأنها تختص بالمضارع ، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي . ولما كان التضرع ناشئاً من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل : فما لانت قلوبهم ولكن قست ، وقيل : كان الظاهر أن يقال : لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر ، ومعنى { قَسَتْ } الخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة .

{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله . والتزيين له معان ، أحدها : إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر كقوله تعالى : { زَيَّنَّا السماء الدنيا } [ الصافات : 6 ] والثاني : جعله مزيناً من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس . والثالث : جعله محبوباً للنفس مشتهى وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغواء ، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسنداً إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] وتارة إلى البشر كقوله عز وجل : { زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة ، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناءً على المراد منه أولاً ، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناءً على المراد منه ثانياً فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة ، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك . وجاء أيضاً غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه : { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 12 ] وحينئذٍ يقدر في كل مكان ما يليق به ، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنعام : 43 ] أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد