الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (43)

قوله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } : " إذ " منصوب ب " تَضرَّعوا " فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز حتى في المفعول به ، تقول : " لولا زيداً ضَرَبْتَ " وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ .

والتضرُّع : تفعُّل من الض‍‍َّراعة ، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال : ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال :

لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ *** ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ

وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له " ضَرْعاً "

قوله : { وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } " لكنْ " هنا واقعة بين ضدين ، وهما اللين والقسوة ؛ وذلك أن قولَه " تَضَرَّعوا " مُشْعِرٌ باللين والسهولة ، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان ، والقسوة عبارة عن الكفر ، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب ، ألا ترى أنك تقول : " آمَنَ قلبُه فتضرَّع ، وقسا قلبه فكفر " وهذا أحسن من قول أبي البقاء : " ولكن " استدراك على المعنى ، أي ما تضرَّعوا ولكن " يعني أن التحضيض في معنى النفي ، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال : " معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل : لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا ، ولكنه جاء ب " لولا " ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم " .

قوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون استنافيةً ، أخبر تعالى عنهم بذلك . " والثاني : وهو الظاهر - : أنها داخلةٌ في حَيِّز الاستدارك فهي نسقٌ على قوله : { قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال : " لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم " وقد تقدَّم ذلك . و " ما " في قوله : { مَا كَانُواّ } يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي : الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية ، أي : زَيَّن لهم عملَهم ، كقوله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة .