التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ} (41)

لما كان العلم بتكذيبهم حاصلاً مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل ، أي الاستمرار على التكذيب . وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبِت لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتى به ، أي إن أصروا على التكذيب بعدما قارعتْهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تَبرؤوا منك .

ومعنى : { لي عملي ولكم عملكم } المتاركة . وهو مما أجري مُجرى المثل ، ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى ، فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب { عَملي } و { عَمَلكم } ، ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون ، كما عُبر به بعد .

والبريء : الخلي عن التلبس بشيءٍ وعن مخالطته . وهو فَعيل من بَرّأ المضاعف على غير قياس . وفعل بَرَّأ مشتق من برىء بكسر الراء من كذا ، إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به .

وهذا التركيب لا يراد به صريحُه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة . وقد جاء هذا المكنى به مصرحاً به في قوله تعالى : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } [ الشعراء : 216 ] ، ولذلك فجملة : { أنتم بريئون مما أعمل } إلى آخرها بيان لجملة : { لي عملي ولكم عملكم } ولذلك فصلت .

وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدراً كما أتي به في قوله : { لي عملي ولكم عملكم } إلى الإتيان به فعلاً صلة ل { ما } الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال ، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه . ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم ، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد ؛ لأن جملة البيان من تمام المبيَّن ، ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم ، لأن في ( ما ) في قوله : { مما أعمل } من المد ما يجعله أسعد بمد النَفَس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله : { مما تعملون } ، ولما في { تعملون } من المد أيضاً ، ولأنه يراعي الفاصلة .

وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء .