التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

لفظ { بقيت } كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي .

فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشىء عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال . وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال ابن عطاء الله : « من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها » .

وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً } [ مريم : 76 ] .

على أنّ لفظ ( البقية ) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت ( البقية ) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى : { فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } [ هود : 116 ] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي :

إن تذنبوا ثم تأتيني بَقيتكم *** فما عَليّ بِذَنْب مِنكمُ فَوْت

قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خِياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم .

وفي كلمة ( البقية ) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال : ابقوا علينا ، ويَقولون « البقيةَ البقيةَ » بالنصب على الإغراء ، قال الأعشى :

قالوا البقيةَ والهنديُّ يحصدهم *** ولا بقيةَ إلا الثار وانكشفوا

وقال مسور بن زيادة الحارثي :

أُذَكّرُ بالبُقْيَا على مَنْ أصابني *** وَبُقْيَايَ أنّي جاهد غير مؤتلي

والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة ، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال . وكل هذه المعاني صالحة هنا . ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة .

وإضافة ( بقية ) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن . وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به .

ومعنى { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم ، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين .

وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك .

وجملة { وما أنا عليكم بحفيظ } في موضع الحال من ضمير { اعبُدوا } ونظائره ، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله .

والحفيظ : المجبر ، كقوله : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] وتقدم عند قوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } في سورة [ الأنعام : 107 ] . والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر . وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال .