التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على { أم لم يعرفوا رسولهم } قوله { أم يقولون به جنة } ، وهو الاستفهام الرابع ، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذباً .

الجِنّة : الجنون ، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان ، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن .

والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله : { من الجِنّة والناس } [ الناس : 6 ] . ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون ، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة . وتقدم عند قوله تعالى { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في سورة الأعراف ( 184 ) . وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتاناً . وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام . ثم قد نُقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو ( بل ) .

والحق : الثابت في الواقع ونفس الأمر ، يكون في الذوات وأوصافها . وفي الأجناس ، وفي المعاني ، وفي الأخبار . فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر ، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق ، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط .

فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة ، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم ، والاعتراف للفاضل بفضله . وزجر الخبيث عن خبثه ، وأخوة المسلمين ، بعضهم لبعض ، والمساواة بينهم في الحق . ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين . ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان . والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم . فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال { ما خلقناهما إلا بالحق } [ الدخان : 39 ] . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه . ولقولهم هو مجنون كان ما بعد ( بل ) نقضاً لقولهم .

وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير { أكثرهم } يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله { فذرهم في غمرتهم } [ المؤمنون : 54 ] فيكون المعنى : أكثر المشركين من قريش كارهون للحق . وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد ، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } [ المؤمنون : 63 ] ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع . ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله : { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .

وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافاً لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص ، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة . فكان المعنى : بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم ، فأما أكثرهم فكراهية للحق ، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم .

وتقدم المعمول في قوله { للحق كارهون } اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه ، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية .