التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ} (194)

القلب : يطلق على ما به قبول المعلومات كما قال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ } [ ق : 37 ] أي إدراك وعقل .

وقوله : { على قلبك } يتعلق بفعل { نزل } ، و { على } للاستعلاء المجازي لأن النزول وصول من مكان عال فهو مقتض استقرار النازل على مكان .

ومعنى نزول جبريل على قلب النبي عليهما السلام : اتصاله بقوة إدراك النبي لإلقاء الوحي الإلهي في قوَّته المتلقّية للكلام الموحى بألفاظه ، ففعل ( نزل ) حقيقة .

وحرف { على } مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .

وقد وصَف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما في حديث « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيَفْصِمُ عني وقد وَعَيتُ عنه ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً فيكلمني فأعِي ما يقول » .

وهذان الوصفان خاصّان بوحي نزول القرآن . وثمة وحي من قبيل إبلاغ المعنى وسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر نفْثاً . فقال : « إن روح القدس نَفَث في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها » فهذا اللفظ ليس من القرآن فهو وحي بالمعنى [ والروع : العقل ] وقد يكون الوحي في رؤيا النوم فإن النبي لا ينام قلبه ، ويكون أيضاً بسماع كلام الله من وراء حجاب ، وقد بيّنا في شرح الحديث النكتة في اختصاص إحدى الحالتين ببعض الأوقات .

وأشعر قوله : { على قلبك } أن القرآن أُلقيَ في قلبه بألفاظه ، قال تعالى : { وما كنت تتْلُو مِن قبله من كتاب } [ العنكبوت : 48 ] .

ومعنى : { لتكون من المنذرين } لتكون من الرسل . واختير من أفعاله النذارة لأنها أخص بغرض السورة فإنها افتتحت بذكر إعراضهم وبإنذارهم .

وفي : { من المنذرين } من المبالغة في تمكن وصف الرسالة منه ما تقدم غيرَ مرة في مثل هذه الصيغة في هذه القصص وغيرها .