التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (46)

قد ذكر الله في أول السورة قوله : { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومَضى مثل الأولين } [ الزخرف : 6 8 ] . وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه السلام مع قومه ، وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضّى أُتبع بتنظير حال الرّسول صلى الله عليه وسلم مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون ومَلَئِهِ ، فإنَّ للمُثل والنظائر شأناً في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويراً يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقبَ أن تلحق أهلَ الحالة الأخرى ، فإن فرعون وملئِه تلقّوا موسى بالإسراف في الكُفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلّى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } [ الزخرف : 45 ] الآية هيَّأتْ المقام لضرب المثَل بحال بعض الرّسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام .

والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلَفاً ومثَلاً للآخرين } [ الزخرف : 55 ، 56 ] ، فإن المراد بالآخرِين المكذبون صناديدُ قريش . ومن المقصود منها بالخصوص هنا : قولُه { وملئه } أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه ، وقوله : { فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله : { وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون } [ الزخرف : 6 ، 7 ] ، وقولُه بعد ذلك { أم أنا خير من هذا الذي هو مَهِين } [ الزخرف : 52 ] لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم : { لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] إلاّ أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريباً عنهم . وقولُه { فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب } [ الزخرف : 53 ] لأنه مشابه لما تضمنه قول صناديد قريش { على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] فإن عظمة ذيْنِك الرجلين كانت بوفرة المال ، ولذلك لم يُذكر مثله في غير هذه القصة من قصص بعثة موسى عليه السلام ، وقولُهم : { يا أيّها الساحر ادْعُ لَنَا ربّك } [ الزخرف : 49 ] وهو مُضاهٍ لقوله في قريش { هذا سحرٌ وإنا به كافرون } [ الزخرف : 30 ] ، وقولُه : { فأغرقناهم أجمعين } [ الزخرف : 55 ] الدالُّ على أن الله أهلكهم كلَّهم ، وذلك إنذار بما حصل من استئصال صناديد قريش يوم بدر .

فحصل من العبرة في هذه القصة أمران :

أحدهما : أن الكفار والجهلة يتمسكون بمثل هذه الشبهة في رد فضل الفضلاء فيتمسكون بخيوط العنكبوت من الأمور العرضية التي لا أثر لها في قيمة النفوس الزكية .

وثانيهما : أن فرعون صاحبَ العظمة الدنيوية المحضة صار مقهوراً مغلوباً انتصر عليه الذي استضعفه ، وتقدم نظير هذه الآية غير مرة .