التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا} (7)

عطف على { الأرض مهاداً } [ النبأ : 6 ] فالواو عاطفة { الجبال } على { الأرض } ، وعاطفة { أوتاداً } على { مهاداً } ، وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل .

والأوتاد : جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية . والوتد : عود غليظ شيئاً ، أسفله أدق من أعلاه يُدق في الأرض لتُشد به أطناب الخيمة وللخيمة ، أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها . والإِخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد .

ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهُها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلاً للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده .

وأيضاً فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهاداً فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحاً بمنزلة حسن الاعتذار ، فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم : رأيت أسوداً غَابُها الرماح . ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سَبح الأرض في الكرة الهوائية إذْ نُتُوّ الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكُرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تيّاره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة .

على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمّة في الجبال فمنها مسايل الأودية ، وقرارات المياه في سفوحها ، ومراعي أنعامهم ، ومستعصمهم في الخوف ، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدوّ . ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض .

فكانت جملة { والجبال أوتاداً } إدْماجاً معترضاً بين جملة { ألم نجعل الأرض مهاداً } [ النبأ : 6 ] وجملةِ { وخلقناكم أزواجاً } [ النبأ : 8 ] .