المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًا} (58)

المعنى قل لهم يا محمد هذه المقالة التي لا ظن يتطرق إليك معها ولا تهتم بهم وبشّر وأنذر { وتوكل علىٍ } المتكفل بنصرك وعضدك في كل أمرك ، ثم وصف تعالى نفسه الصفة التي تقتضي التوكل في قوله { الحي الذي لا يموت } إذ هذا المعنى يختص بالله تعالى دون كل ما لدينا مما يقع عليه اسم حي ، وقوله { وسبح بحمده } قل سبحان الله وبحمده أي تنزيهه واجب وبحمده أقول .

قال القاضي أبو محمد : وقال رسول صلى الله عليه وسلم «من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر »{[8857]} ، فهذا معنى { وسبح بحمده } وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان ، الحديث ، وقوله { وكفى به } توعد وإزالة كل عن محمد صلى الله عليه وسلم في همه بهم{[8858]} .


[8857]:أخرجه البخاري، ومسلم وأبو داود، والترميذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.
[8858]:(كفى) في كلام العرب يراد بها المبالغة، تقول: كفى بالعلم جمالا، وكفى بالأدب مالا، وفي بعض الأخبار: كفى بك ظفرا أن يكون عدوك عاصيا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًا} (58)

عطف على جملة { قل ما أسألكم عليه من أجر } [ الفرقان : 57 ] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم .

والتوكل : الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل ، أي المتولّي مهمّات غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله } في آل عمران ( 159 ) .

و { الحي الذي لا يموت } هو الله تعالى . وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصْر التوكل في الكون عليه ، فالتعريف في { الحي } للكامل ، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت ، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام . وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء .

وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحياناً لكنه لا يدوم .

وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية ، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله .

والباء في { بحمده } للمصاحبة ، أي سبحه تسبيحاً مصاحباً للثناء عليه بما هو أهله . فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدِّماً التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص .

وأمْر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية .

وجملة { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } اعتراض في آخر الكلام ، فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق ، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام . ففي ( ذنوب عباده ) عُمومان : عمومُ ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عمومَ إفراد المضاف ، وعمومُ الناس لإضافة ( عباد ) إلى ضمير الجلالة ، أي جميِع عباده ، مع ما في صيغة ( خبير ) من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث . والكفاية : الإجزاء ، وفي فعل { كفى } إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه .

والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل . وقد كثر دخول باء التأكيد بعدَ فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله ، وتقدم في قوله تعالى : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } في سورة الإسراء ( 14 ) . و { خبيراً } حال من ضمير { به } أي كفى به من حيث الخبرة .

والعلمُ بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم ، والشرك جامع الذنوب . وفي الكلام أيضاً تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم .