لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًا} (58)

التوكلْ تفويضُ الأمور إلى الله وحقُّه وأصْلُهُ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله تعالى ، وأنه لا يقدر أحدٌ على الإيجاد غيرُه .

فإذا عَرَفَ هذا فهو فيما يحتاج إليه - إذا عَلِمَ أن مرادَهُ لا يرتفع إلا مِنْ قِبَلِ الله - حصل له أصل التوكل . وهذا القَدْرُ فَرْضٌ ، وهو من شرائط الإيمان ، فإن الله تعالى يقول : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة :23 ] وما زاد على هذا القَدْرِ - وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار - فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله .

فإن تقرَّرَ هذا فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ، ولكلِّ درجةٍ من هذه الأقسام اسم : إمَّا من حيث الاشتقاق ، أو من حيث الاصطلاح .

فأول رتبة فيه أن يكتفي بما فيه يده ، ولا يطلب زيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة . . وتسمى هذه الحالة القناعة ، وفيها يقف صاحبها حيث وقف ، ويقنع بالحاصل له فلا يستزيد ثم اكتفاءُ كلِّ أحدٍ يختلف في القلة والكثرة ، وراحة قلوب هؤلاء في التخلص من الْحِرصِ وإرادة الزيادة .

ثم بعد هذا سكونُ القلب في حالة عَدَمِ وجود الأسباب ، فيكون مجرداً عن الشيء ، ويكون في إرادته متوكلاً على الله . وهؤلاء متباينون في الرتبة ، فواحد يكتفي بوعده لأنه صَدَقَه في ضمانه ، فيسكن - عند فقد الأسباب - بقلبه ثقةً منه بوعد ربه . . ويسمى هذا توكلاً ، ويقال على هذا : إن التوكل سكون القلب بضمان الربِّ ، أو سكون الجاش في طلب المعاش ، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه ، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد .

وألطف من هذا أن يكتفي بِعِلْمِ أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ؛ ويعمل على طاعته ؛ ولا يراعي إنجاز ما وَعَدَهَ ؛ بَل يِكلُ أمرَه إلى الله . . وهذا هو التسليم .

وفوق هذا التفويض ، وهو أنْ يَكِلَ أمرَه إلى الله . ولا يقترح على مولاه بحالٍ ، ولا يختار ؛ ويستوي عند وجودُ الأسباب وعَدَمُها ؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ؛ ولا يفكر في حال نَفْسِه ؛ ويعلم أنه مملوكٌ لمولاه ؛ والسيِّدُ أوْلَ بِعَبْدِهِ من العبد بنفسه .

فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ راحةً في المَنْع ؛ واستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ . . . وتلك هي مرتبة الرضا ؛ ويصلح له في هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه ما لا يحصل لِمَنْ دونَه من الحلاوة في وجود المقصود .

وبعد هذا الموافقة ؛ وهي ألا يجد الراحة في المَنْعِ ، بل يجد بَدَلَ هذا عند نسيم القربِ زوائد الأُنْس بنسيان كلِّ أرَبٍ ، ونيسان وجود سبب أو عدو وجود سبب ؛ فكما أنَ حلاوة الطاعة تتصاغر عند بَرْدِ الرضا - وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجاباً - فكذلك أهل الأُنْسِ بالله . بنسيانِ كلِّ فَقْدٍ ووَجْدٍ ، وبالتغافل عن أحوالهم في الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع ، والاستقلال بلطائف نقصاناً في الحال .

ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية ، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء . . وأمثال هذا ، وذلك هو عين التوحيد ، فعند ذلك لا أُنْسَ ولا هيبة ، ولا لذة ولا راحة ، ولا وحشة ولا آفة .

هذا بيان ترتيبهم فأمّا دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين - على تباين شِرْبِهم . - يختلف على على حسب اختلاف محالِّهم .

فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل في المهد ؛ لا شيء مِنْ قِبَلِه إلا أن يرضعه مَنْ هو في حضانته .

ويقال التوكل زوال الاستشراف ، وسقوط الطمع ، وفراغ القلب من تعب الانتظار .

ويقال التوكل السكون عند مجاري الأقدار على اختلافها .

ويقال إذا وثق القلب بجريان القسمة لا يضره الكسب ، ولا يقدح في توكله .

ويقال عوام المتوكلين إذا أُعْطُوا شكروا ، وإذا مُنعُوا صبروا . وخواصُّهم إذا أَعْطُوا آثروا ، وإذا مٌنِعُوا شكروا .

ويقال الحقُّ يجود على الأولياء - إذا توكلوا - بتيسير السبب من حيث يُحْتَسَبُ ولا يُحْتَسَبُ ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب . . . وإذا لم يكن الأرَبُ فمتى يكون الطلب ؟

ويقال التوكل في الأسباب الدنيوية إلى حدَّ ، فأمَّا التوكل على الله في إصلاحه - سبحانه - أمورَ آخرِة العبد فهذا أشدُّ غموضاً ، وأكثرُ خفاءً . فالواجبُ في الأسباب الدنيوية أن يكون السكونُ عن طلبها غالباً ، والحركةُ تكون ضرورةً . فأمَّا في أمور الآخرة وما يتعلَّقُ بالطاعةِ فالواجبُ البِدارُ والجِدُّ والانكماشُ ، والخروجُ عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل .

والذي يتَّصِفُ بالتواني في العبادات ، ويتباطؤ في تلافي ما ضيَّعَه من أرضاء الخصوم والقيام بحقِّ الواجبات ، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله وأنه - سبحانه - يعفو عنه فهو مُتَّهَمٌ معلولُ الحالِ ، ممكورٌ مُسْتَدْرَجٌ ، بل يجب أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه . ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستنِدُ إلى سكونه وحركته ، ويتبرأُ بِسِرِّه من حَوْلِهِ وقوَّتِه . ثم يكون حَسَنَ الظنِّ بربِّه ، ومع حُسْنِ ظنه بربه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته ، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقتُ غالِبٌ ، وهو أحد ما قيل في معاني قولهم : الوقت سيف .