المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ} (4)

{ وما تأتيهم } الآية { ما } نافية و { من } الأولى هي الزائدة التي تدخل على الأجناس بعد النفي ، فكأنها تستغرق الجنس{[4822]} ، و { من } الثانية للتبعيض ، والآية العلامة و الدلالة والحجة ، وقد تقدم القول في وزنها في صدر الكتاب ، وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم .


[4822]:- معنى الزيادة أن ما بعد (من) معمول لما قبلها، فتكون (آية) فاعلا بالفعل (تأتي)، فإذا كانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام كانت (من) لتأكيد الاستغراق نحو: "ما في الدار من أحد"، وإن كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت دالة على الاستغراق نحو: "ما قام من رجل".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ} (4)

هذا انتقال إلى كفران المشركين في تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أقيمت عليهم الحجّة ببطلان كفرهم في أمر الشرك بالله في الإلهية ، وقد عطف لأنّ الأمرين من أحوال كفرهم ولأنّ الذي حملهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم هو دعوته إياهم إلى التوحيد ، فمن أجله نشأ النزاع بينهم وبينه فكذبوه وسألوه الآيات على صدقه .

وضمائر جمع الغائبين مراد منها المشركون الذين هم بعض من شملته ضمائر الخطاب في الآية التي قبلها ، ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم ، تنصيصاً على ذلك ، وإعراضاً عن خطابهم ، وتمحيضاً للخطاب للمؤمنين ، وهو من أحسن الالتفات ، لأنّ الالتفات يحسنّه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المرادُ منه تجديد نشاط السامع . وتكون الواو استئنافية وما بعدها كلاماً مستأنفاً ابتدائياً .

واستعمل المضارع في قوله : { تأتيهم } للدلالة على التجدّد وإن كان هذا الإتيان ماضياً أيضاً بقرينة المضي في قوله : { إلا كانوا } .

والمراد بإتيانها بلوغها إليهم وتحدّيهم بها ، فشبّه البلوغ بمجيء الجائي ، كقول النابغة :

أتاني أبيت اللعن أنّك لمتني

وحذف ما يدّل على الجانب المأتي منه لظهوره من قوله : { من آيات ربّهم } ، أي ما تأتيهم من عند ربّهم آية من آياته إلاّ كانوا عنها معرضين .

و { من } في قوله : { من آية } لتأكيد النفي لقصد عموم الآيات التي أتت وتأتي . و { من } التي في قوله : { من آيات ربّهم } تبعيضية . والمراد بقوله : { من آية } كلّ دلالة تدلّ على انفراد الله تعالى بالإلهية . من ذلك آيات القرآن التي لإعجازها لم كانت دلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الوحدانية . وكذلك معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام مثل انشقاق القمر . وتقدّم معنى الآية عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا } في سورة البقرة ( 39 ) .

وإضافة الربّ إلى ضميرهم { هم } لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحقّ العبودية ، لأنّ من حقّ العبد أن يُقبل على ما يأتيه من ربّه وعلى من يأتيه يقول له : إنّي مُرسل إليك من ربّك ، ثمّ يتأمّل وينظر ، وليس من حقّه أن يعرض عن ذلك إذ لعلّه يعرض عمّا إن تأمله علم أنّه من عند ربّه .

والاستثناء مفرّغ من أحوال محذوفة .

وجملة : { كانوا عنها معرضين } في موضع الحال . واختير الإتيان في خبر كان بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أنّ هذا الإعراض متحقّق من دلالة فعل الكون ، ومتجدّد من دلالة صيغة اسم الفاعل لأنّ المشتقّات في قوة الفعل المضارع . والاستثناء دلّ على أنّهم لم يكن لهم حال إلاّ الإعراض .

وإنّما ينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمّل ، فهو دليل على أنّ المعرض مكذّب للمخبِر المعرِض عن سماعه .

وأصل الإعراض صرف الوجه عن النظر في الشيء وهو هنا مجاز في إباء المعرفة ، فيشمل المعنى الحقيقي بالنسبة إلى الآيات المبصرات كانشقاق القمر ، ويشمل ترك الاستماع للقرآن ، ويشمل المكابرة عن الاعتراف بإعجازه وكونه حقّاً بالنسبة للذين يستمعون القرآن ويكابرونه ، كما يجيء في قوله : { ومنهم من يستمع إليك } . وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة .