روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَا تَأۡتِيهِم مِّنۡ ءَايَةٖ مِّنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ} (4)

{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ } كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وامترائهم في البعث وإعراضهم عن بعض ( أدلته ) ، والإعراض عن خطابهم للإيذان بأن إعراضهم السابق قد بلغ مبلغاً اقتضى أن لا يواجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحاً وتعدد جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم . فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية كما أشار إليه العلامة البيضاوي ولله تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي ، ومن الأولى : مزيدة للاستغراق أو لتأكيده . والثانية : للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية ، وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة لا تكون بعضاً من الآيات . ورد بأن الاستغراق ههنا لآية متصفة بالاتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد لا يخلو عن نظر وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقها . والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات . والإتيان على الأول : بمعنى النزول ، وعلى الثاني : بمعنى الظهور على ما قيل ، ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقاً بمعنى الظهور استعمالاً له في لازم معناه وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازاً لا كناية كما قيل وحاصل المعنى على الأول : ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها .

{ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } غير مقبلين عليها ولا معتنين بها ، وعلى الثاني : ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عز وجل إلا كانوا ( عنها معرضين ) تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها ، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات . واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض . وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء ، و ( عن ) متعلقة بمعرضين . والتقديم لرعاية الفواصل . والجملة بعد إلا كما قال الكرخي في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما . وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ } [ القمر : 2 ] للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ } الأنفسية والآفاقية { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ الأنعام : 4 ] لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود