معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } الآية ، وذلك يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه ، وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه ، وهند بنت أبي عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبايعكن " { على أن لا تشركن بالله شيئاً } ، فرفعت هند رأسها وقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام ، والجهاد فقط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، { ولا يسرقن } فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات ، فلا أدري أيحل لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة ؟ قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك ، فقال : { ولا يزنين } فقالت هند : أو تزني الحرة ؟ فقال : { ولا يقتلن أولادهن } فقالت هند ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } وهي أن تقذف ولداً على زوجها ليس منه- قالت هند : والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : { ولا يعصينك في معروف } قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . فأقر النسوة بما أخذ عليهن . قوله : { ولا يقتلن أولادهن } أراد وأد البنات الذي كان يفعل أهل الجاهلية . قوله { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } ليس المراد منه نهيهن عن الزنا ، لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره ، بل المراد منه أن تلتقط مولوداً وتقول لزوجها هذا ولدي منك ، فهو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها . قوله :{ ولا يعصينك في معروف } أي في كل أمر وافق طاعة الله . قال بكر بن عبد الله المزني : في كل أمر فيه رشدهن . وقال مجاهد : لا تخلو المرأة بالرجال . وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد : هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه ، ولا تحدث المرأة الرجال إلا ذا محرم ، ولا تخلو برجل غير ذي محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا { أن لا يشركن بالله شيئاً } ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها ، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فانطلقت ورجعت وبايعها " . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري ، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا هدية بن خالد ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، أن زيداً حدثه ، أن أبا سلام حدثه ، أن أبا مالك الأشعري حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم والنياحة " . وقال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمرو بن حفص ، حدثنا أبي أنبأنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " . قوله : { فبايعهن } يعني إذا بايعنك فبايعهن ، { واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمود ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : { لا يشركن بالله شيئاً } قالت : وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها } . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا محمد ابن عبد الله بن حمدون ، أنبأنا مكي بن عبدان ، حدثنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، سمع أميمة بنت رقية تقول : " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة ، فقال لنا : فيما استطعتن وأطقتن ، فقلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بنا من أنفسنا ، قلت : يا رسول الله بايعنا ، قال سفيان : يعني صافحنا ، فقال : إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة " .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعهن بالكلام ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث الصحيح عن عائشة ، وروي : أنه صلى الله عليه وسلم لف على يده ثوبا كثيفا ثم لمس النساء يده كذلك ، وقيل : إنه غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء ، فغمسن أيديهن فيه .

{ ولا يأتين بهتان } معناه : عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له وكانت المرأة تلتقط ولدا ، فتقول لزوجها هذا ولدي منك ، وإنما قال يفترينه بين أيديهن وأرجلهن لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها وفرجها الذي تلده به بين رجليها ، واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم بأن ينسب للرجل غير ولده أو تفتري على أحد بالقول أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك ، وإلى هذا أشار بعض الناس بأن قال بين أيديهن يراد به اللسان والفم وبين الأرجل يراد به الفرج .

{ ولا يعصينك في معروف } أي : لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب ، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان نساء الجاهلية يفعلنه ، وورد في الحديث : أن النساء لما بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبايعة ، فقررهن على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل علي إن أخذت من ماله بغير إذنه ، فقال لها : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ، فلما قررهن على أن لا يزنين ، قالت هند : يا رسول الله أتزني الحرة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزني الحرة " ، يعني في غالب المرأة ، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال : " ولا يقتلن أولادهن " ، قالت : نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف قالت : ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك ، وهذه المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم ، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا فإما أن تكون منسوخة ، ولم يذكر الناسخ ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

قوله تعالى : { ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم } .

روى البخاري عن عروة أن عائشة ( رضي الله عنها ) أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية . قالت عائشة : فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد بايعتك " كلاما . ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط . ما يبايعهن إلا بقوله : " قد بايعتك على ذلك " . وروى الإمام أحمد عن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا . الآية . وقال : " فيما استطعتن وأطقتن : قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا . قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال : " إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة " وعلى هذا جاءت المؤمنان لمبايعة الرسول على أن لا يشركن بالله شيئا وأن لا يسرقن ولا يزنين ، { ولا يقتلن أولادهن } أي لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أي لا يلحقن برجالهن أولادا من غيرهم . فما بين يديها ورجليها كناية عن الولد . فإلحاق ولد الزنا بالزوج ، بهتان مفترى وهو أساسه الزنا .

قوله : { ولايعصينك في معروف } أي لا يعصينك فيما أمرتهن به من معروف وما نهيتهن عنه من منكر . وقيل : المراد به النياحة . والصواب أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وينهى عنه ويدخل فيه النوح وغيره مما حرم فعله . قوله : { فبايعهن واستغفر لهن الله } ذلك جواب الشرط يعني إذا بايعنك على ما ذكر فبايعهن واطلب لهن من الله المغفرة { إن الله غفور رحيم } الله بليغ المغفرة والرحمة بالعباد {[4520]} .


[4520]:تفسير القرطبي جـ 18 ص 72 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 355.