السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى : { يا أيها النبيّ } مخاطباً له بالوصف المقتضى للعلم { إذا جاءك المؤمنات } جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لاسيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الهجرة عليهن ، { يبايعنك على أن لا يشركن } أي : كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات { بالله } أي : الملك الذي لا كفؤ له { شيئاً } أي من إشراك على الإطلاق { ولا يسرقن } أي : يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية { ولا يزنين } أي : يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح ، { ولا يقتلن أولادهن } أي : بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات ، أي : دفنهن أحياء خوفاً من العار والفقر { ولا يأتين ببهتان } أي : بولد ملقوط أو شبهة بأن { يفترينه } أي : يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج ، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى : { بين أيديهن } أي : بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها { وأرجلهن } أي : بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها ، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها .

وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، ومعنى : بين أرجلهن فروجهن . وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع . وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق ، { ولا يعصينك } أي : على حال من الأحوال { في معروف } وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة ، وتمزيق الثياب ، وجر الشعر وشق الجيب ، وخمش الوجه { فبايعهن } أي : التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة ، فبايعهن صلى الله عليه وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن . قالت عائشة رضي الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عز وجل ، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط . وروي أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية ، { أن لا يشركن بالله شيئاً } إلى آخرها قالت : وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها » وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن ، فقلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارحم بنا من أنفسنا ، وقلت : يا رسول الله صافحنا ، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة » . وروي «أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن » وقالت أم عطية : «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية ، فقلن نعم ، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللهم اشهد » وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه » وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة ، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد ، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال ، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسرقن ، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا ، فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة » ، قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك .

وروي أنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي ، قال : «لا إلا بالمعروف » فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع و تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة ، ثم قال : ولا يزنين ، فقالت هند : أو تزني الحرة ، فقال : ولا يقتلن أولادهن أي : بالوأد ، ولا يسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً ، وأنت وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : { ولا يعصينك في معروف } فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن ، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء . وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج ، وإن سبق النهي عن الزنا .

تنبيه : ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي ، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً : الشهادة ، والزكاة ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجناب ، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان ، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد .

وقيل : إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها ، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا ، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت » فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها .

ولما كان الإنسان محل النقصان لاسيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى : { واستغفر } أي : اسأل { لهن الله } أي : الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع ، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره { إن الله } أي : الذي له صفات الكمال { غفور } أي : بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً { رحيم } أي : بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً .