ثم دعاهما إلى الإسلام فقال : { يا صاحبي السجن } ، جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه ، كما يقال لسكان الجنة : أصحاب الجنة ، ولسكان النار : أصحاب النار ، { أأرباب متفرقون } ، أي : آلهة شتى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من حديد ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، متباينون لا تضر ولا تنفع ، { خير أم الله الواحد القهار } ، الذي لا ثاني له . القهار : الغالب على الكل .
ثم إن يوسف ، عليه السلام ، أقبل على الفتيين بالمخاطبة ، والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وَخَلْع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما ، فقال : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
[ أي ]{[15178]} الذي وَلِي{[15179]} كل شيء بِعزّ جلاله ، وعظمة{[15180]} سلطانه .
وصفه لهما ب { صاحبي السجن } هو : إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه - كما قال : { أصحاب الجنة }{[6685]} ، و { أصحاب الجحيم }{[6686]} ونحو هذا - وإما أن يريد صحبتهما له في السجن ، فأضافهما إلى السجن بذلك ، كأنه قال : يا صاحبيَّ في السجن ، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم ؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها «بالتفرق »{[6687]} ، ووصف الله تعالى ب «الوحدة » و «القهر » تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته ، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ، ثم كذلك أبداً حتى يصل إلى الحق ، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده ؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم .
استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به .
وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه ، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة ، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها .
واتفق القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون ، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان .
والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية ، مثل : مكر الليل ، أي يا صاحبيْن في السجن .
وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما ، فالاستفهام تقريري . وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة ، إذ فرض لهما إلهاً واحداً مستفرداً بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها . وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم ، وذلك حال ملة القبط .
ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى ، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة . وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد .
هذا إذا حمل لفظ { خير } على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة . ويجوز أن يكون { خير } مستعملاً في معنى الخير عند العقل ، أي الرجحان والقبول . والمعنى : اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد ، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة ، إذ يتبين لهما أن أرباباً متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم ، كما يومىء إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية .
وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شِرك ، أي تعدد الآلهة . وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى . وذلك هو شأن سائر أديان الشرك ، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة . والأممُ الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم .
نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى . ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالاً من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة . وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر :
وأحسن حالاً من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزاً للنجوم والكواكب .
وكانت آلهة القبط نحواً من ثلاثين رباً أكبرها عندهم آمون رُعْ . ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي : أوزوريس ، وأزيس ، وهوروس . فللّه بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال : { أأربابٌ متفرقون } [ سورة يوسف : 39 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.