قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا } ، عن الشرك .
قوله تعالى : { يغفر لهم ما قد سلف } ، أي : ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام .
قوله تعالى : { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } ، في نصر الله أنبياءه ، وأوليائه ، وإهلاك أعدائه . قال يحيى بن معاذ الرازي : توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا } أي : عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة ، يغفر لهم ما قد سَلَف ، أي : من كفرهم ، وذنوبهم وخطاياهم ، كما جاء في الصحيح ، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحْسَن في الإسلام ، لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام ، أخذ بالأول والآخر " {[12933]}
وفي الصحيح أيضًا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الإسلام يَجُبُّ ما قبله{[12934]} والتوبة تجب ما كان قبلها " .
وقوله : { وَإِنْ يَعُودُوا } أي : يستمروا على ما هم فيه ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم ، أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة .
وقوله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم . وقال السدي ومحمد بن إسحاق : أي : يوم بدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد {للذين كفروا إن ينتهوا} عن الشرك ويتوبوا، {يغفر لهم ما قد سلف} من شركهم قبل الإسلام {وإن يعودوا} لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتوبوا، {فقد مضت سنت الأولين} يعنى القتل ببدر، فحذرهم العقوبة لئلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم ببدر...
أخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس رضي الله عنه قال: لا يؤخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم، وذلك أن الله تعالى يقول: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}.
وما قد سلف تقضى وذهب، ودلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يطرح عنهم ما بينهم وبين الله عز ذكره والعباد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الإيمان يجب ما قبله». وقال الله تبارك وتعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبَا} ولم يأمرهم برد ما مضى منه. وقتل وحشي حمزة فأسلم، ولم يُقَدْ منه، ولم يتبع له بعقل، ولم يؤمر له بكفارة لطرح الإسلام ما فات من الشرك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قومك: إن ينتهوا عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله وقتالك وقتال المؤمنين فينيبوا إلى الإيمان، يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم. "وإنْ يَعُودُوا "يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر، فقد مضت سنتي في الأوّلين منهم ببدر ومن غيرهم من القرون الخالية إذ طغوا وكذّبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم من إحلال عاجل النقم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك مثل الذين أحللت بهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ذكر عز وجل غاية كرمه وجوده بما وعد لهم من المغفرة والتجاوز عما كان منهم من الإشراك في ألوهيته وصرف العبادة إلى غيره وصد الناس عن عبادته وطاعته ونصب الحروب التي نصبوا بينهم وبين المؤمنين وغير ذلك من أنواع الهلاك. فمع ما كان منهم وعد لهم المغفرة بالانتهاء من ذلك لتعلم غاية كرمه وجوده. والمغفرة تحتمل التجاوز عنهم ما كان منهم؛ لا يؤاخذوهم بذلك، ويحتمل أن يستر عليهم معاصيهم التي كانت منهم، فلا يذكرون ذلك؛ لأنهم لو ذكروا ذلك نغص عليهم النعم ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ...} أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِن يَعُودُواْ} لقتاله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام. "الإسلام يجب ما قبله"...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ لَطِيفَةٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا...
"فقد مضت سنة الأولين"... معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {ولقد سبقت كلمتنا} {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، و كان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة {قل للذين} أي لأجل الذين {كفروا} أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله {إن ينتهوا} أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره {يغفر لهم} بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب {ما قد سلف} أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين الله تعالى حال الكفار الذين يصرون على كفرهم وصدهم عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وما لهم في الدنيا والآخرة قفى عليه ببيان حكم الذين يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام، لأن الأنفس صارت تتشوق إلى هذا البيان، وتتساءل عنه بلسان الحال أو المقال، وهو {قل للذين كفروا إن ينتهوا} أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتبليغ: إن ينتهوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله والقتال لأوليائه المؤمنين بالدخول في الإسلام {يغفر لهم ما قد سلف} منهم من ذلك ومن غيره من الذنوب، يغفر الله لهم ذلك في الآخرة فلا يعاقبهم على شيء منه، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون ما يخصهم من إجرامهم فلا يطالبون قاتلا منهم بدم، ولا سالبا أو غانما بسلب أو غنم، وقرأ ابن مسعود (إن تنتهوا يغفر لكم) بالخطاب روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أبسط يدك أبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: (ما لك)؟ قلت أردت أن أشترط قال: (تشترط بماذا)؟ قلت أن يغفر لي، قال: (أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله؟) الحديث.
{وإن يعودوا} إلى العداء والصد والقتال {فقد مضت سنّة الأولين} أي تجري عليهم سنته المطردة في أمثالهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، وقال مجاهد: في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك، أقول وهي السنة التي عبر عنها بمثل قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 20، 21] وقوله: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] فإضافة السنة إلى الأولين لملابستها لهم وجريانها عليهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الذنوب مهما تكبر، فباب التوبة مفتوح فما أنزل الله الرسل ليحصوا عدد الذين أساءوا، بل للدعوة إلى الحق، وقد يكفرون فالدعوة تستمر لهدايتهم، ومن يستجب منهم تجب استجابته ما كان منه من قبل؛ ولذلك كان الباب مفتوحا، ولذا أمر الله نبيه – مع كفرهم – أن يقول لهم: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}...