ثم بين عجز الأصنام فقال : { ما تعبدون من دونه } ، أي : من دون الله ، وإنما ذكر بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالخطاب للاثنين لأنه أراد جميع أهل السجن ، وكل من هو على مثل حالهما من أهل الشرك ، { إلا أسماءً سميتموها } ، آلهة وأربابا خالية عن المعنى لا حقيقة لتلك الأسماء ، { أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } ، حجة وبرهان ، { إن الحكم } ، ما القضاء والأمر والنهي ، { إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } ، المستقيم ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
ثم بين لهما أنَّ التي يعبدونها ويسمّونها آلهة ، إنما هو جَهْلُ{[15181]} منهم ، وتسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خَلَفهم عن سَلَفهم ، وليس لذلك مستند من عند الله ؛ ولهذا قال : { مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } أي : حجة ولا برهان .
ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كلَّه لله ، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه ، ثم قال : ذلك الدين القيم أي : هذا الذي أدعوكم إليه من تَوحيد الله ، وإخلاص العمل له ، هو الدين المستقيم ، الذي أمر الله به وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : فلهذا كان أكثرهم مشركين . { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : { ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِه }ِ : ما تعبدون من دون الله . وقال : { ما تَعْبُدُونَ } ، وقد ابتدأ الخطاب بخطاب اثنين فقال : { يا صَاحِبَيِ السّجْنِ } ؛ لأنه قصد المخاطب به ومن هو على الشرك بالله مقيم من أهل مصر ، فقال للمخاطب بذلك : ما تعبد أنت ومن هو على مثل ما أنت عليه من عبدة الأوثان { إلاّ أسْماءً سَمّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ } ، وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة أربابا ، شركا منهم وتشبيها لها في أسمائها التي سموها بها بالله ، تعالى عن أن يكون له مثل أو شبيه . { ما أنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ } ، يقول : سموها بأسماء لم يأذن لهم بتسميتها ، ولا وَضَع لهم على أن تلك الأسماء أسماؤها دلالة ولا حجة ، ولكنها اختلاق منهم لها وافتراء .
وقوله : { إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ } ، يقول : وهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميع خلقه إلا الله الذي له الألوهة والعبادة خالصة دون كلّ ما سواه من الأشياء . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، في قوله : { إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إياهُ } ، قال : أسس الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له .
وقوله : { ذلكَ الدّينُ القَيّمُ } ، يقول : هذا الذي دعوتكما إليه من البراءة من عبادة ما سوى الله من الأوثان ، وأن تخلصا العبادة لله الواحد القهار ، هو الدين القويم الذي لا أعوجاج فيه ، والحقّ الذي لا شكّ فيه . { وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ، يقول : ولكن أهل الشرك بالله يجهلون ذلك ، فلا يعلمون حقيقته .
{ ما تعبدون من دونه } خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر . { إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } أي إلا الأشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة . والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها . { إن الحكم } ما الحكم في أمر العبادة . { إلا لله } لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره . { أمر } على لسان أنبيائه . { ألا تعبدوا إلا إياه } الذي دلت عليه الحجج . { ذلك الدين القيّم } الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم ، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة ، بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها ، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيخبطون في جهالاتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.