اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (40)

ثُمَّ عجز الأصنام ، فقال :{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً } أي : من دون الله ، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين ؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن ، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك .

فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً ، وليست كذلك ؟ .

فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك ، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ ، والتقدير ، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً ، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار ؟ .

فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ ، وبين الله تعالى ، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ ؟ .

فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير ، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار ؟ .

قوله تعالى : { إِلاَّ أَسْمَآءً } ، إما أن يراد بها المسميات ، أو على حذف مضاف ، أي : ذواتُ المُسمَّيات ، و " سَمِّتُمُوهَا " ك صفةٌ ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما ، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة .

و " مَا أنْزَلَ " : صفةٌ ل : أسْمَاء " ، و " مِنْ " : زائدةٌ في : " مِنْ سُلطَانٍ " ، أي : حُجَّةٍ .

و " إن الحُكْمُ " : " إنْ " نافيةٌ ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء ؛ كقوله : { وَقَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] ، ونحو ؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما .

فصل

قال في الآية : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } ، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات ، ثم قال في عقبه : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ ، وبينها تناقضٌ .

والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ ؛ وبيانه من وجهين :

الأول : أن ذوات الأصنام ، وإن كانت موجودةً ، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية ، وإذا كان كذلك ، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ .

الثاني : رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب ، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام ، قالوا : نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم ، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم ، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها ؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك .

فأجاب الله تعالى عنه ، فقال : أمَّا تسميتها بالآلهةِ ، فما أمر الله بذلك ، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة ، ولا برهاناً ، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله ، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ .

ثم إنه تعالى : { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم ؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه : الخلقُ ، و الإحياءُ ، والعقلُ ، والرزقُ ، والهدايةُ ، ونَعمُ الله كثيرةٌ ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ .

ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية ، والمناسباتِ الكوكبيَّة ؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ .

ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان ، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ ، أنَّ المدبِّر [ لحدوث ] الحوادث في العالم ، هو الشمسُ والقمر ، وسائرُ الكواكب .

ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ ، وعرف أنَّها في ذواتها ، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ ، مبدع قادرٍ ، قاهر ، عليم ، حكيمٍ ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ ؛ فلهذا قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .

قوله " أمَرَ " يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً ، و " قد " معه مرادة عند بعضهم .

قال أبو البقاءِ : وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه .

يعني بالعامل : ما تضمنه الجَارُّ في قوله " إلاَّ الله " من الاستقرار .