قوله تعالى : { فأنجيناه } ، يعني هوداً عند نزول العذاب .
قوله تعالى : { والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } ، أي : استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم .
قوله تعالى : { وما كانوا مؤمنين } .
ما ذكره ابن إسحاق وغيره : أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف ، وهي رمال بين عمان وحضرموت ، وكانوا قد فشوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، صنم يقال له صدأ ، وصنم يقال له صمود ، وصنم يقال له الهباء ، فبعث الله إليهم هوداً نبياً ، وهو من أوسطهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ، لم يأمرهم بغير ذلك ، فكذبوه وقالوا : من أشد منا قوة ، وبنوا المصانع ، وبطشوا بطشة الجبارين ، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك . وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى ، مختلفة أديانهم ، وكلهم معظم لمكة ، وأهل مكة يومئذ العماليق ، سموا عماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاوذ ، بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر ، وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا : جهزوا وفداً منكم إلى مكة فليستسقوا لكم ، فبعثوا ، قيل ابن عنز ، ونعيم بن هزال ، من هزيل ، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر ، بن صندين بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلاً . فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر ، وتغنيهم الجرادتان ، وهما قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهرا ، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه ، وقال : هلك أخوالي وأصهاري ، وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم ، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي ، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا ، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ، فقال معاوية بن بكر :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عاداً *** قد أمسوا لا ييينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير *** فقد أمسيت نساؤهم أيامى
وإن الوحش تأتيهم جهاراً *** فلا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد بن سعد بن عفير ، وكان آمن بهود سراً : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وأنبتم إلى ربكم سقيتم ، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال شعرا : عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وإن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له ، فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ، وبها وفد عاد يدعون ، فقال : اللهم أعطني سؤلي وحدي ، ولا تدخلني في شئ مما يدعوك به وفد عاد ، قال : قيل بن عنز رأس وفد عاد ، فقال وفد عاد : اللهم أعط قيلاً ما سألك ، واجعل سؤلنا مع سؤله ، وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد ، حتى إذا فرغوا من دعوتهم فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي ، وسأل الله طول العمر ، فعمر عمر سبعة أنسر ، وقال : قيل ابن عنز حين دعا : يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً ، بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل ، اختر لنفسك وقومك من السحائب ما شئت ، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماءً ، فناداه مناد : اخترت رماداً رمدداً لا يبقي من آل عاد أحداً ، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، يقول الله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 24-25 ] أي : كل شيء مرت به ، وكان أول من أبصر ما فيها ، وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد ، يقال لها مهدد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت ، فما أفاقت قالوا لها : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود ، وتلذ الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة ، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه ، فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة ، في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا له : فأين فارقت هوداً وأصحابه ؟ فقال : فارقتهم بساحل البحر ، فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ورب مكة . وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد ، وقيل بن عنز ، حين دعوا بمكة ، قيل لهم : قد أعطيتكم مناكم فاختاروا لأنفسكم ، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ، ولابد من الموت ، فقال مرثد : اللهم أعطني صدقاً وبراً ، فأعطي ذلك ، وقل لقمان : أعطني يا رب عمراً ، فقيل له : اختر ، فاختار عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته ، فيأخذ الذكر منها لقوته ، حتى إذا مات أخذ غيره ، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع ، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة ، وكان آخرها لبدا ، فلما مات لبد مات لقمان معه . وأما قيل فإنه قال : أختار أن يصيبني ما أصاب قومي ، فقيل له : إنه الهلاك ، فقال : لا أبالي ، لا حاجة لي في البقاء بعدهم ، فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك . قال السدي : بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال ، تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فلما رأوها تبادروا البيوت فدخلوها ، وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ، ثم أخرجتهم من البيوت ، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه . وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين تحت الرمل ، ثم أمر الريح فكشف عنهم الرمال فاحتملتهم ، فرمت بهم في البحر ، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ ، فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم ، فلم يعلموا كم كان مكيالها ، وفي الحديث : ( أنها خرجت على قدر خرق الخاتم ) ، وروي عن علي رضي الله عنه : أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر . وقال عبد الرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً ، وإن قبر هود ، وشعيب وصالح ، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة . ويروى أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا .
( فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين )
فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد . وهو ما عبر عنه بقطع الدابر . والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم !
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين . وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير . . ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى . فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الإستعراض السريع ؛ ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص .
والضمير في قوله «أنجيناه » عائد على «هود » أي أخرجه الله سالماً ناجياً مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله ، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا { وقطعنا دابر } استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك ، و «الدابر » الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم : فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله { كذبوا بآياتنا } دال على المعجزة وإن لم تتعين لها .
الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هوداً والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هوداً إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه ، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : { والذين معه } . والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هوداً ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتاً لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمناً طويلاً لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه : { أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] فهو ظاهر في أنّ عاداً وثموداً كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب .
وقوله : { برحمة منا } الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير { رحمة } للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( مِنَّا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
وتفسير قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } نظير قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة الأنعام ( 45 ) ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعاً ولم يبق منهم أحد . والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح آنفاً ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .
{ وما كانوا مؤمنين } عطف على { كذّبوا } فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضاً بمشركي قريش ، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيراً أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعاً لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعداداً لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأنجيناه}، يعني هودا، {والذين معه} من المؤمنين، {برحمة منا}، يعني بنعمة منا من العذاب، {وقطعنا دابر}، يعني أصل القوم {الذين كذبوا بآياتنا}، يعني بنزول العذاب، {وما كانوا مؤمنين}، يعني مصدقين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...يقول تعالى ذكره: فأنجينا هودا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعا إليه من توحيد الله وهجر الآلهة والأوثان "برَحْمَةٍ مِنّا وقَطَعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا "يقول: وأهلكنا الذين كذّبوا من قوم هود بحججنا جميعا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدا... قال ابن زيد، في قوله: "وَقَطَعْنا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا" قال: استأصلناهم..." وَما كانُوا مُؤمِنِينَ" يقول: لم يكونوا مصدّقين بالله ولا برسوله هود...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين معه برحمة منا} إن حكم الله أنه إذا أهلك قوما إهلاك تعذيب استأصلهم، وأنجى أولياءه، ونصرهم... {برحمة منا} يحتمل قوله تعالى برحمته التي هداهم عز وجل ولولا رحمته ما اهتدوا، لكنه أنجاهم برحمته وفضله، والله أعلم. وفيه أن من نجا برحمته وفضله، وإن كان رسولا، لا باستيجاب منه النجاة...
{الذين كذّبوا بآياتنا} ولم يبين لنا آياته التي أعطى هودا، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما أخبر ما أحل بتكذيبهم الرسول؛ وذلك كان سنة وحكمة في الأمم السالفة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...في هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه أنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، والإنجاء: التخليص من الهلاك، وأصله من النجوة وهي الارتفاع من الأرض، والنجاء: السرعة في السير، لأنه ارتفاع فيه بالإسراع...
" وقطعنا "فالقطع هو: إفراد الشيء عن غيره مما كان على تقدير الاتصال به، فلما أفردوا بالهلاك عما كان على تقدير التبع لهم من نسلهم وآثارهم من بعدهم كان قد قطع دابرهم...
والدابر: الكائن خلف الشيء، ونقيضه القابل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة. وأخبر -سبحانه- أنه نجَّى هوداً برحمته، وكذلك نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعْلَمَ أنَّ النجاةَ لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضلٍ من الله ورحمته؛ فما نَجَا مَنْ نجا إلا بفضل الحق سبحانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم... ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين، ونجى الله المؤمنين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وقطعنا دابر} استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، و «الدابر» الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم: فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله {كذبوا بآياتنا} دال على المعجزة وإن لم تتعين لها.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وما كانوا مؤمنين}... تنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله: {فأنجيناه} أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين {والذين معه} أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله: {برحمة} أي بإكرام وحياطة {منا} أي لا بعمل ولا غيره. ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع {وقطعنا} دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال: {دابر} أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام {الذين كذبوا بآياتنا} أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله: {وما كانوا} أي خلقاً وجبلة {مؤمنين}... وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه162 لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول {إنهم كانوا قوماً عمين} [الأعراف: 64] تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للإيمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى: وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وما كان من بعد هذا إلا العقاب، فنزل بهم عذاب ساحق أهلكهم الله تعالى، وأنجى الله تعالى هودا ومن معه من المؤمنين؛ ولذا قال تعالى: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} وترى التشابه التام، بين ما لقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين، وبين ما لقى نوح، وهود، من قبله – عليهم الصلاة والسلام – وإن ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصبر، ويحمل التبعة، وشدائدها فإن تلك سنة الله مع الدعاة؛ والذين يدعونهم، وما كنت بدعا من الرسل...