قوله تعالى : { قالوا } ، ليعقوب ، { يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف } ، قرأ أبو جعفر : { تأمنا } بلا إشمام ، وهو رواية عن نافع ، وقرأ الباقون : { تأمنا } بإشمام الضمة في النون الأولى المدغمة ، وهو إشارة إلى الضمة ، من غير إمحاض ، ليعلم أن أصله : لا تأمننا بنونين على تفعلنا ، فأدغمت النون الأولى في الثانية ، بدؤوا بالإنكار عليه في ترك إرساله معهم كأنهم قالوا : إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه ؟ . { وإنا له لناصحون } ، قال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وذلك أنهم قالوا لأبيهم : { أرسله معنا } فقال أبوهم : { إني ليحزنني أن تذهبوا به فحينئذ قالوا : { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } ، النصح هاهنا هو : القيام بالمصلحة ، وقيل : البر والعطف ، معناه : إنا عاطفون عليه ، قائمون بمصلحته ، نحفظه حتى نرده إليك .
فها هم أولاء عند أبيهم ، يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة . وها هم أولاء يخادعون أباهم ، ويمكرون به وبيوسف . فلنشهد ولنستمع لما يدور :
( قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنا على يوسف ، وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون ! قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون ) . .
والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب ، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم . .
بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة .
سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي ، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم ، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف . فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار ، لا لأنه لا يأمنهم عليه . فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم ، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر ؛ ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف . فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة !
مالك لا تأمنا على يوسف ؟ وإنا له لناصحون . .
قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء - وكاد المريب أن يقول خذوني - فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب . .
الآية الأولى تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم الخبيثة في جهة يوسف . وهذه أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك .
وقرأ الزهري وأبو جعفر «لا تأمنا » بالإدغام دون إشمام . ورواها الحلواني عن قالون{[6581]} ، وقرأ السبعة بالإشمام للضم ، وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا » وقرأ ابن وثاب والأعمش «لا تيمنا » بكسر تاء العلامة .
استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جَرَى بعد إشارة أخيهم عليهم ، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم .
وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم : { يا أبانا } يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه .
ولعل يعقوب عليه السّلام كان لا يأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفاً عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم ، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم ، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان .
وفي التّوراة أن يعقوب عليه السّلام أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون ، وإذا لم يكن تحريفاً فلعلّ يعقوب عليه السّلام بعد أن امتنع من خروج يوسف عليه السّلام معهم سمح له بذلك ، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك .
وتركيب { ما لك } لا تفعل . تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { فما لكم كيف تحكمون } في سورة يونس ( 35 ) ، وانظر قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا مَا لَكمْ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم إلى الأرض } في سورة بَراءة ( 38 ) . وقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } في سورة النساء ( 88 ) .
واتفق القرّاء على قراءة { لا تأمنّا } بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين ، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة . واختفلوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض ، وإدغام بإشمام ، وإخفاء بلا إدغام ، وهذا الوجه الأخير مرجوح ، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام ، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين .
وحرف { على } التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول { على } .
والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح ، وفعله يتعدّى باللاّم غالباً وبنفسه . وتقدّم في قوله تعالى : { أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم } في سورة الأعراف ( 62 ) .
وجملة { وإنّا له لناصحون } معترضة بين جملتي { ما لك لا تأمنّا } وجملة { أرسله } . والمعنى هنا : أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف عليه السّلام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال إخوة يوسف إذ تآمروا بينهم، وأجمعوا على الفرقة بينه وبين والده يعقوب لوالدهم يعقوب: {يا أبانا ما لَكَ لاَ تأْمَنّا على يوسُفَ}، فتتركه معنا إذا نحن خرجنا خارج المدينة إلى الصحراء، {ونَحْنَ لَهُ ناصحُونَ}: نحوطه، ونكلؤه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) دل قولهم: (ما لك لا تأمنا على يوسف) على أنهم طلبوا إخراجه من أبيهم غير مرة؛ لأن هذا الكلام لا يتكلم به مبتدأ غير مسابقة شيء من أمثاله، فدل أنهم قد استأذنوه في إخراجه غير مرة (وإنا له لناصحون) الناصح هو الدال على كل خير، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة، وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه.
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول. واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: إن هذا لحسن من حيث إنه صرفهم عن قتله، فهل استمروا عليه أو قام منهم قائم في استنزالهم عنه بعاطفة الرحم وود القرابة؟ فقيل: بل استمروا لأنهم {قالوا} إعمالاً للحيلة في الوصول إليه، مستفهمين على وجه التعجب لأنه كان أحس منهم الشر، فكان يحذرهم عليه {يا أبانا ما لك} أيّ أي شيء لك في حال كونك {لا تأمنا على يوسف و} الحال {إنا له لناصحون} والنصح دليل الأمانة وسببها، ولهذا قرنا في قوله {ناصح أمين} [الأعراف:68] والأمن: سكون النفس إلى انتفاء الشر، وسببه طول الإمهال في الأمر الذي يجوز قطعه بالمكروه فيقع الاغترار بذلك الإمهال من الجهال، وضده الخوف، وهو انزعاج النفس لما يتوقع من الضر؛ والنصح: إخلاص العمل من فساد يتعمد، وضده الغش، وأجمع القراء على حذف حركة الرفع في تأمن وإدغام نونه بعد إسكانه تبعاً للرسم، بعضهم إدغاماً محضاً وبعضهم مع الإشمام، وبعضهم مع الروم، دلالة على نفي سكون قلبه عليه عليهما الصلاة و السلام بأمنه عليه منهم على أبلغ وجه مع أنهم أهل لأن يسكن إليهم بذلك غاية السكون، ولو ظهرت ضمة الرفع عند أحد من القراء فات هذا الإيماء إلى هذه النكتة البديعة...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجبّ، جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له، وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فها هم أولاء عند أبيهم، يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وها هم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف. فلنشهد ولنستمع لما يدور: (قالوا: يا أبانا، مالك لا تأمنا على يوسف، وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب، وإنا له لحافظون! قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون).. والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم.. (يا أبانا).. بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة. مالك لا تأمنا على يوسف؟.. سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر؛ ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف. فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة! مالك لا تأمنا على يوسف؟ وإنا له لناصحون.. قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء -وكاد المريب أن يقول خذوني- فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب...
وبعد أن وافقوا أخاهم الذي خفف من مسألة القتل، ووصل بها إلى مسألة الإلقاء في الجب؛ بدأوا التنفيذ، فقال واحد منهم موجها الكلام لأبيه، وفي حضور كل الإخوة. {يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف} وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحدا منهم هو الذي قال، وأمن الباقون على كلامه؛ إما سكوتا أو بالإشارة... وهكذا نفهم أن الذي قال: {يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون} تلك الكلمات التي وردت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة يوسف، وأمن بقية الإخوة على كلامه. وقولهم: {ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون} يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب.
{وإنا له لناصحون} يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شر؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي أن يخاف عليه الأب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
واتفقوا على تنفيذ خطة المؤامرة، وجاءوا إلى أبيهم في أسلوب استعطاف يوحي بالمحبة ليوسف، وينكر على أبيهم شكّه فيهم وعدم ائتمانه لهم عليه، الأمر الذي يظهر عدم سماحه في ما مضى لهم باصطحابه معهم في مشاريع الخروج للبرّ وللبساتين، للهو واللعب، بهدف الترويح عن النفس في الهواء الطلق. {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}، ونحن إخوته الذين يُكِّنون له كل محبة الأخ لأخيه، ويحبون له ما يحبون لأنفسهم من الراحة والانطلاق، تماماً كما يشعر أحدنا بالنسبة لبقيّة إخوانه، {وإنا له لناصحون} في ما ينصح به الأخ أخاه. إننا لا نجد لموقفك السلبي مراراً سوى الغلوّ في العاطفة الأبوية والتعلُّق به بطريقة تكاد تخنقه وتمنع عنه التحرك في الهواء الطلق، وأنت تشكّ في كل شيء يتحرك من حوله، حتى لنشعر أنك تتهمنا بالعمل على إيذائه والتآمر عليه...