( إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ) . .
وإنها لتركد أحياناً فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة !
( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) . .
في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آيات لكل صبار شكور . والصبر والشكر كثيراً ما يقترنان في القرآن . الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء ؛ وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء .
{ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } أي : التي تسير بالسفن{[25906]} ، لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك {[25907]} السفن ، بل تظل راكدة لا تجيء ولا تذهب ، بل واقفة على ظهره ، أي : على وجه الماء { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ } أي : في الشدائد { شكور } أي : إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم ، لدلالات على نعمه تعالى على خلقه { لِكُلِّ صَبَّارٍ } أي : في الشدائد ، { شكور } في الرخاء .
وإسكان الرياح : قطع هبوبها ، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح .
وقرأ نافع { الريَاح } بلفظ الجمع . وقرأه الباقون { الريح } بلفظ المفرد . وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على الريح الخير ، وما قيل : إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد . وقد قرىء في آيات أخرى الرياح والريح في سياق الخير دون العذاب .
قرأ الجمهور { يشأ } بهمزة ساكنة . وقرأه ورش عن نافع بألف على أنه تخفيف للهمزة .
والرواكد : جمع راكدة ، والركود : الاستقرار والثبوت .
والظهْر : الصلب للإنسان والحيوان ، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقاً شائعاً . يقال : ظَهْر البيت ، أي سطحه ، وتقدم في قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } [ البقرة : 189 ] . وأصله : استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة ، فظَهْر البحر سطح مائه البادي للناظر ، كما أطلق ظهْر الأرض على ما يبدو منها ، قال تعالى : { ما تَرك على ظهرها من دابّة } [ فاطر : 45 ] .
وجُعل ذلك آيةً لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفاً ونجاة ، والخوف يدعو إلى الصبر ، والنجاةُ تدعو إلى الشكر .
والمراد : أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلُق الصبر على الضرّاء والشكرِ للسرّاء ، فهو يعتبر بأحوال الفُلْك في البحر اعتباراً يقارنه الصبر أو الشكر .
وإنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن الله منفرد بالإلهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره} قائمات على ظهر الماء، فلا تجري {إن في ذلك} الذي ترون، يعني السفن إذا جرين وإذا ركدن.
{لآيات}، يعني لعبرة، {لكل صبار}، يقول: كل صبور على أمر الله.
{شكور} لله تعالى في هذه النعمة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنّ في ذلكَ لآيات لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ": إن في جري هذه الجواري في البحر بقُدرة الله لعظة وعبرة وحجة بينة على قُدرة الله على ما يشاء، لكل ذي صبر على طاعة الله، شكور لنِعمه وأياديه عنده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
صيّر الريح نوعين: أحدهما: طيبة تجري بها السُّفن، والأخرى عاصفة شديدة، تهلك بها السفن، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفُلك وجرين بهم بريح طيّبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} الآية {يونس: 22}. ثم في ذلك خلال ثلاث تدل على أن الريح ليست تُجري السفن، وتهبّ بطبعها ونفسها ولكن بالله تعالى.
والثالثة: أن الفعل الطبيعي على سنن واحد كالحرارة في النار والبرودة في الثلج وأمثال ذلك كثيرة ولو كان جريان الريح وهبوبها بنفسها وطبعها لكانت لا تسكن في حال، ولا تكون مرة طيبة سالمة ومرة شديدة عاصفة مُهلكة. دلّ أن ذلك كان بالله تعالى لا بالطبع.
{إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: سمّى المؤمن صبورا شكورا.
والثاني: سمّى من صبر على ما أصاب من الشدائد والمصائب التي ذكر صبورا ومن شكر ما ذكر من النّعم في السفن وغيرها شكورا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(إن في ذلك) يعني في تسخير البحر وجريان السفن فيها لآيات أي حججا واضحات. (لكل صبار) على أمر الله (شكور) على نعمه، وإنما أضاف الآيات إلى كل صبار وإن كانت دلالات لغيرهم أيضا من حيث هم الذين انتفعوا بها دون غيرهم، ممن لم ينظر فيها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
باقي الآية فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص، والصبر والشكر فيهما الخير كله، ولا يكونان إلا في عالم.
المقصود التنبيه، على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلا عن دلائل معرفة الله البتة لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء وإما في الآلاء، فإن كان في البلاء كان من الصابرين، وإن كان من النعماء كان من الشاكرين، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون البتة من الغافلين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأنه قيل: وما تلك الآيات؟ ذكر ما يخوفهم منها ويعرفهم أن جميع ما أباحهم إياه من شؤونها إنما هو بقدرته واختياره فقال: {إن يشاء} أي الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة الفكر لها.
{يسكن الريح} التي يسيرها وانتم مقرّون أن أمرها ليس إلا بيده.
{فيظللن} أي فتسبب عن ذلك أنهن يظللن أن يقمن ليلاً كان أو نهاراً، ولعله عبر به مع أن أصله الإقامة نهاراً لأن النهار موضع الاقتدار على الأشياء وهو المنتظر عند كل متعسر للسعي في إزالة عسره وتيسر أمره.
{رواكد} أي ثوابت مستقرات من غير سير {على ظهره} ثباتاً ظاهراً بما دل عليه إثبات اللامين وفتح لامه الأولى للكل.
ولما كان ذلك موضع إخلاصهم الدعوة لله والإعراض عن الشركاء فإنهم كانوا يقولون في مثل هذا الحال: اخلصوا فإن آلهتكم -أي من الأصنام وغيرها من دون الله- لا تغني في البحر شيئاً، وكانوا ينسبون ذلك شركاء مع طلوعهم إلى البر كانوا بمنزلة من لا يعد ذلك آية أصلاً، فلذلك أكد قوله: {إن في ذلك} أي ما ذكر من حال السفن في سيرها وركودها مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه.
{لآيات} أي على أن إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال أمر مركوز في العقول ثابت في الفطر الأولى مما لا يصد عنه إلا الهوى، وعلى أن بطلان أمر ما دونه لذلك هو من الظهور بمكان لا يجهل.
ولما كانوا يتمادحون بالصبر على نوازل الحدثان والشكر لكل إحسان ويتذامون بالجزع والكفران، وكان ذلك يقتضي ثباتهم على حال واحد؛ فإن كان الحق عليهم لمعبوداتهم فرجوعهم عنها عند الشدائد مما لا ينحو نحوه ولا يلتفت لفتة أحد من كمل الرجال الذين يجانبون العار والاتسام بمسيم الإغمار، وإن كان الحق كما هو الحق لله فرجوعهم عنه عند الرخاء بعد إنعامه عليهم بإنجائهم من الشدة لا يفعله ذو عزيمة، قال مشيراً إلى ذلك بصيغتي المبالغة: {لكل صبار} أي في الشدة.
{شكور} أي في الرخاء وإن كثر مخالفوه، وعظم نزاعهم له، وهاتان صفتا المؤمن المخلص الذي وكل همته بالنظر في الآيات فهو يستملي منها العبر ويجلو بها من البصيرة عين البصر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} ويتجمّدن في مكانهن من دون حراك، لأن الريح هي سبب حركة السفن.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وهما الصفتان الأساسيتان في شخصية المؤمن اللتان تؤثران على حركته الفكرية والعملية لجهة انفتاحه على الحياة من خلال الله، ووعيه كل ظواهرها الدالة على عظمته وقدرته. فإن الصابر قادرٌ على مواجهة القضايا الفكرية التي تحتاج إلى التأمُّل الطويل، والجهد الكبير على ملاحقة المفردات الفكرية التي تصل به إلى النتائج الحاسمة، كما هو قادرٌ على مواجهة الواقع القاسي المحمّل بالمشاكل التي تتحدى أوضاعه وقضاياه، وعلى الثبات أمام ذلك، وعلى تحمّل الحرمان الذي يلحقه جراء ذلك، فهو يصبر على شروط المعرفة حتى يصل إليها، ويصبر على البلاء حتى يتجاوزه بسلام..
كما أن الشاكر ينفتح على ما حوله من نِعَمٍ تمدّه بقوة الحياة ونضارتها، ليجد فيها مواقع رحمة ربه، فلا يستغرق في ذات النعمة، بل يتطلع إلى ما توحي به من دلالات، وما تفتحه من آفاق على الله، ليشكره بالكلمة، والطاعة، والموقف، والعبادة الخاشعة في محراب الكون.