ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة ؛ وتلك الجاهلية الصريحة ؛ ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري - أيّاً كانت طفولته - فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم ، وصور فيه مدارج الشرك في النفس :
( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ ) .
إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد ! وآلهتهم المدعاة - كلها - لا تخلق شيئاً بل هي تخلق ! فكيف يشركون بها ؟ كيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ؟
وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد . فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية . . وآلهتهم المدعاة - كلها - لا قوة لها ولا سلطان ؛ فهم لا يستطيعون نصرهم ، ولا نصر أنفسهم ! فكيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم ؟
ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة ، فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة ! إنهم يقيمون لهم أصناماً أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به ؛ ويجعلون لها شركاً في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم . . فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئاً ؟ ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصراً ؟
إن العقل البشري - لو خلي بينه وبين هذا الواقع - لا يقره ، ولا يرضاه ! ولكنها الشهوات والأهواء والتضليل والخداع . . هي التي تجعل البشرية بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن ترتد إلى هذه الجاهلية - في صورتها الجديدة - فتشرك ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون !
إن هذه البشرية لفي حاجة اليوم - كما كانت في حاجة بالأمس - إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى . في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام ؛ ومن يخرجها من الظلمات إلى النور ؛ ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية الجديدة ؛ بل من هذا السخف الجديد الذي تلج فيه ؛ كما أنقذها هذا الدين أول مرة !
إن صيغة التعبير القرآنية توحي بأنه كان يعني كذلك تقريعهم على اتخاذ آلهة من البشر :
( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ )
فهذه الواو والنون تشير إلى أن من بين هذه الآلهة على الأقل بشراً من " العقلاء " الذين يعبر عنهم بضمير " العاقل " ! . . وما علمنا أن العرب في وثنيتهم كانوا يشركون بآلهة من البشر - بمعنى أنهم يعتقدون بألوهيتهم أو يقدمون الشعائر التعبدية لهم - إنما هم كانوا يشركون بأمثال هؤلاء من ناحية أنهم يتلقون منهم الشرائع الاجتماعية والأحكام في النزاعات - أي الحاكمية الأرضية - وأن القرآن يعبر عن هذا بالشرك ، ويسوي بينه وبين شركهم الآخر بالأوثان والأصنام سواء . وهذا هو الاعتبار الإسلامي لهذا اللون من الشرك . فهو شرك كشرك الاعتقاد والشعائر لا فرق بينه وبينه ، كما اعتبر الذين يتقبلون الشرائع والأحكام من الأحبار والرهبان مشركين . مع أنهم لم يكونوا يعتقدون بألوهيتهم ولم يكونوا يقدمون لهم الشعائر كذلك . . فكله شرك وخروج عن التوحيد الذي يقوم عليه دين الله ؛ والذي تعبر عنه شهادة أن لا إله إلا الله . . مما يتفق تماماً مع ما قررناه من شرك الجاهلية الحديثة !
ولهذا قال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أتشركون{[12525]} به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 73 ، 74 ] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ، ما استطاعوا خلق ذبابة ، بل لو أستَلبتهم{[12526]} الذبابة شيئا من حَقير المطاعم{[12527]} وطارت ، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها ، فمن هذه صفته وحاله ، كيف يعبد ليرزق ويستنصر ؟ ولهذا قال تعالى : { لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ]{[12528]} } [ الصافات : 95 ، 96 ]
وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وعاصم «عما يشركون أيشركون » بالياء من تحت فيهما ، وقرأ أبو عبد الرحمن «عما تشركون » بالتاء من فوق «أتشركون مالا يخلق » الآية ، وروى بعض من قال إن الآيات في آدم وحواء أن إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال : إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس ، فولد له ولد فسماه كذلك وإياه عنى بقوله { أيشركون مالا يخلق شيئاً } ، { وهم يخلقون } على هذا عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه في مشركي الكفار الذين يشركون الأصنام في العبادة وإياها أراد بقوله { ما لا يخلق } ، وعبر عنها بهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائها ، و { يخلقون } معناه ينحتون ويصنعون ، ويحتمل على قراءة «يشركون » بالياء من تحت أني كون المعنى وهؤلاء المشركون يخلقون ، أي فكان قولهم أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلون إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.