قوله تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } . قال ابن عباس : نزلت في رؤساء يهود المدينة ، كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب ابن يهودا ، وأبي ياسر بن أخطب ، وفي نصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله ، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وقالت النصارى : نبينا أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك فقال تعالى :
قوله تعالى : { قل } . يا محمد .
قوله تعالى : { بل ملة إبراهيم } . بل نتبع ملة إبراهيم ، وقال الكسائي : هو نصب على الإغراء ، كأنه يقول : اتبعوا ملة إبراهيم ، وقيل معناه بل نكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوباً .
قوله تعالى : { حنيفاً } . نصب على الحال عند نحاة البصرة ، وعند نحاة الكوفة نصب على القطع . أراد به ملة بل إبراهيم الحنيف ، فلما أسقطت الألف واللام لم يتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب . قال مجاهد : الحنيفية اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماماً للناس . قال ابن عباس : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وأصله من الحنف ، وهو ميل وعوج يكون في القدم ، وقال سعيد بن جبير : الحنيف هو الحاج المختتن . وقال الضحاك : إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج ، وإذا لم يكن مع المسلم فهو المسلم ، قال قتادة : الحنيفية : الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك .
قوله تعالى : { وما كان من المشركين } . ثم علم المؤمنين طريق الإيمان فقال جل ذكره : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .
في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم ، لقصة العهد مع إبراهيم : وقصة البيت الحرام كعبة المسلمين ؛ ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين ؛ يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين ، ويعرض لحججهم وجدلهم ومحالهم ، فيبدو هذا كله ضعيفا شاحبا ، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل : كذلك تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة لا ينحرف عنها إلا المتعنتون :
( وقالوا : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا . قل : بل ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين . قولوا : آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله ، وهو السميع العليم . صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ؟ ونحن له عابدون . قل : أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، ونحن له مخلصون ؟ . أم تقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ؟ قل : أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟ وما الله بغافل عما تعملون ) . .
وإنما كان قول اليهود : كونوا يهودا تهتدوا ؛ وكان قول النصارى : كونوا نصارى تهتدوا . فجمع الله قوليهم ليوجه نبيه [ ص ] أن يواجههم جميعا بكلمة واحدة :
( قل : بل ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ) . .
قل : بل نرجع جميعا ، نحن وأنتم ، إلى ملة إبراهيم ، أبينا وأبيكم ، وأصل ملة الإسلام ، وصاحب العهد مع ربه عليه . . ( وما كان من المشركين ) . . بينما أنتم تشركون . .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال عبد الله بن صُوريا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد{[2843]} . وقالت النصارى مثل ذلك . فأنزل الله عز وجل : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا }
وقوله { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي : لا نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية ، بل نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي : مستقيما . قاله محمد بن كعب القرظي ، وعيسى بن جارية .
وقال خَصِيف عن مجاهد : مخلصًا . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : حاجًّا . وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية ، والسدي .
وقال أبو العالية : الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلا .
وقال مجاهد ، والربيع بن أنس : حنيفًا ، أي : متبعًا . وقال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم .
وقال قتادة : الحنيفية : شهادة أن لا إله إلا الله . يدخل فيها تحريمُ الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله ، عز وجل{[2844]} والختانُ .
{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى } الضمير الغائب لأهل الكتاب وأو للتنويع ، والمعنى مقالتهم أحد هذين القولين . قالت اليهود كونوا هودا . وقال النصارى كونوا نصارى { تهتدوا } جواب الأمر . { قل بل ملة إبراهيم } أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملته ، أو بل نتبع ملة إبراهيم . وقرئ بالرفع أي ملته ملتنا ، أو عكسه ، أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته . { حنيفا } مائلا عن الباطل إلى الحق . حال من المضاف ، أو المضاف إليه كقوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا } . { وما كان من المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون .
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } .
الظاهر أنه عطف على قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] ، فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه .
ووجه الحصر حاصل من جزم { تهتدوا } في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من لم يكن يهودياً لا يراه اليهود مهتدياً ومن لم يكن نصرانياً لا يراه النصارى مهتدياً أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم .
والواو في قال عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في { أم كنتم شهداء } [ البقرة : 133 ] وقوله : { ولكم ما كسبتم } [ البقرة : 134 ] .
و ( أو ) في قوله : { أو نصارى } تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلاً إلى من قاله ، وجزم { تهتدوا } في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين .
جردت جملة ( قل ) من العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } على نحو ما تقدم أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان .
وانتصب ( ملة ) بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن { كونوا هوداً } بمعنى اتبعوا اليهودية ، ويجوز أن ينصب عطفاً على { هوداً } والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن حاتم لما وفد على النبيء صلى الله عليه وسلم ليسلم : " إني من دين أو من أهل دين " يعني النصرانية .
والحنيف فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس فيما ترقصه به :
والله لولا حنف برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله
والمراد الميل في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد . وإنما كان هذا مدحاً للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلاً عنهم فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة . والوجه أن يجعل ( حنيفاً ) حالاً من ( إبراهيم ) وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالاً لملة إلا أن فعيلاً بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد { إن رحمة الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] أي إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول .
وقد دلت هذه الآية على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم .
وقوله : { وما كان من المشركين } جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله : { بل ملة إبراهيم } أي لا نكون هوداً ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } غلط فيه صاحب « الكشاف » غلطاً فاحشاً كما سيأتي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}، وذلك أن رؤوس اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وأبا ياسر بن أخطب...، ونصارى نجران السيد، والعاقب ومن معهما، قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا، فإنه ليس دين إلا ديننا، فكذبهم الله تعالى، فقال: {قل بل} الدين {ملة إبراهيم} يعني الإسلام، ثم قال: {حنيفا}، يعني: مخلصا.
{وما كان من المشركين}: من اليهود والنصارى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَقالُوا كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}: وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا. تعني بقولها تهتدوا: أي تصيبوا طريق الحقّ.احتجّ الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي تجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، وندع سائر الملل التي نختلف فيها فينكرها بعضنا ويقرّ بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاجتماع عليه كما لنا السبيل إلا الاجتماع على ملة إبراهيم.
وفي نصب قوله: {بَلْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ} أوجه ثلاثة:
أحدها أن يوجه معنى قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى} إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية، لأنهم إذ قالوا: كونوا هودا أو نصارى إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة، فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف «نتبع»
الثاني، ويعطف بالملة على إعراب اليهودية والنصرانية. والاَخر أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى نتبع.
والثالث أن يكون أُرِيدَ: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة إبراهيم، ثم حذف «الأهل» و«الأصحاب»، وأقيمت «الملة» مقامهم، إذ كانت مؤدّية عن معنى الكلام...فتكون الملة حينئذ منصوبة عطفا في الإعراب على اليهود والنصارى.
وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم. وقرأ بعض القرّاء ذلك رفعا، فتأويله على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم.
{بَلْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}. والملة: الدين. وأما الحنيف: فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تُقْبل إحدى قدميه على الأخرى إنما قيل له أحنف نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد: المفازة، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة وكما قيل للّديغ: السليم، تفاؤلاً له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك.
فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما. فيكون الحنيف حينئذ حالاً من إبراهيم. وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك،
فقال بعضهم: الحنيف: الحاجّ. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام الحنيفية، لأنه أوّل إمام لزم العباد الذين كانوا في عصره والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة اتباعَه في مناسك الحجّ، والائتمام به فيه...
وقال آخرون: الحنيف: المتبع، كما وصفنا قَبْلُ من قول الذين قالوا: إن معناه الاستقامة...
عن مجاهد: {حُنَفَاءَ}: متبعين...
وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم الحنيفية، لأنه أوّل إمام سنّ للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختتن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام، فهو حنيف على ملة إبراهيم.
وقال آخرون: بل ملة إبراهيم حنيفا، بل ملة إبراهيم مخلصا، فالحنيف على قولهم: المخلص دِينَهُ لله وحده...
عن السدي: {وَاتّبعْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا}: مخلصا...
وقال آخرون: بل الحنيفية: الإسلام، فكل من ائتمّ بإبراهيم في ملته فاستقام عليها فهو حنيف.
الحنيف عندي هو الاستقامة على دين إبراهيم واتباعه على ملته. وذلك أن الحنيفية لو كانت حجّ البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفا مُسْلِما وَما كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} فكذلك القول في الختان لأن الحنيفية لو كانت هي الختان لوجب أن يكون اليهود حنفاء، وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله:
{ما كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِيّا، وَلَكِنْ كانَ حَنِيفا مُسْلِما}. فقد صحّ إذا أن الحنيفية ليست الختان وحده، ولا حجّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا من الاستقامة على ملة إبراهيم واتباعه عليها والائتمام به فيها.
فإن قال قائل: فكيف أضيف «الحنيفية» إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟ قيل: إن كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إماما فيما بينه من مناسك الحجّ والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة، وجعل ما سنّ من ذلك عَلَما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم والمطيع منهم له والعاصي، فسمي الحنيف من الناس حنيفا باتباعه ملته واستقامته على هديه ومنهاجه، وسمي الضالّ عن ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي، وغير ذلك من صنوف الملل.
وأما قوله: {وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود، ولا من النصارى، بل كان حنيفا مسلما.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
معناه إذا تجاذبتك الفِرَق، واختلف عليك المطالبات بالموافقة، فاحكم بتقابل دعاواهم، وأَزِد من توجهك إلينا، جارياً على منهاج الخليل عليه السلام في اعتزال الجملة، سواء [أكان] أباه، [أم] كان ممن لا يوافق مولاه، ولذا قال: {وَأَعْتَّزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] للحق بالحق...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ونفى عنه الإشراك، فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم عزير ابن الله، والنصرانية لقولهم المسيح ابن الله.
فإن قيل: أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام. قلنا: لما ثبت أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام، وأن محمدا عليه السلام لما دعا إلى التوحيد، كان هو على دين إبراهيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى أنهم تركوا السنة في تهذيب أنفسهم بالاقتداء في الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم وبين بطلان ما هم عليه الآن من كل وجه وأوضح أنه محض الضلال، بين أنه عاقبهم على ذلك بأن صيرهم دعاة إلى الكفر، لأن سنته الماضية سبقت ولن تجد لسنته تحويلاً أن من أمات سنة أحيى على يديه بدعة عقوبة له.
قال الحرالي: لأنهما متناوبان في الأديان تناوب المتقابلات في الأجسام فقال تعالى معجباً منهم عاطفاً على قوله: {وقالوا لن يدخل} [البقرة: 111] {وقالوا} أي الفريقان من أهل الكتاب لأتباع الهدى {كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} أي لم يكفهم ارتكابهم للباطل وسلوكهم طرق الضلال حتى دعوا إلى ما هم عليه ووعدوا بالهداية الصائرة إليه فأمره تعالى بأن يجيبهم أنه مستن بسنة أبيهم لا يحول عنها كما حالوا فقال موجهاً الخطاب إلى أشرف خلقه لعلو مقام ما يخبر به وصعوبة التقيد به على النفس: {قل بل} مضرباً عن مقالهم، أي لا يكون شيئاً مما ذكرتم بل نكون أو نلابس أنا ومن لحق بي من كمل أهل الإسلام {ملة إبراهيم} ملابسة نصير بها إياها كأننا تجسدنا منها، وهو كناية عن عدم الانفكاك عنها، فهو أبلغ مما لو قيل: بل أهل ملة إبراهيم.
قال الحرالي: ففيه كمال تسنن محمد صلى الله عليه وسلم في ملته بملة إبراهيم عليه السلام الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر، وقد ذكر أن الملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم {حنيفاً} أي ليناً هشاً سهلاً قابلاً للاستقامة مائلاً مع داعي الحق منقاداً له مسلماً أمره إليه، لا يتوجه إليه شيء من العشاوة والكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والشماخة والطغيان، وذلك لأن مادة حنف بكل ترتيب تدور على الخفة واللطافة، ويشبه أن تكون الحقيقة الأولى منها النحافة، ويلزم هذا المعنى الانتشار والضمور والميل، فيلزمه سهولة الانقياد والاستقامة، ويكشفه آية آل عمران (ولكن كان حنيفاً مسلماً} [آل عمران: 67] فبذلك حاد عن بنيات طرق الخلق في انحرافهم عن جادة طريق الإسلام. وقال الحرالي: الحنيف المائل عن متغير ما عليه الناس عادة إلى ما تقتضيه الفطرة حنان قلب إلى صدق حسه الباطن...
ولما أثبت له الإسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: {وما كان من المشركين}.
قال الحرالي: فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك في ثبت الأمور والأفعال والأحوال وفي إفهامه أنه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم في الكمال الخاتم كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم منه في الابتداء الفاتح، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قل إن صلاتي} [الأنعام: 162] إلى قوله: {وأنا أول المسلمين}
[الأنعام: 163] فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به ومن سواه فهو منه فيها، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله، فمن لم يكن مثلاً من الكافرين فهو من المؤمنين، لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه، لما في ذلك من معني إثبات الوصف ونفي مقابله، ومثل هذا كثير الدور في خطاب القرآن، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم خفي عن مشاهد العلم، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس؛ والفهم من العقل بمنزلة الروح، فللفهم مدرك لا يناله العلم، كما أن للروح معتلى لا تصل إليه النفس، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى على الوجود -انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بيَّن في الآيات السابقة حقيقة ملة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الإسلام ثم أشرك معهم أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه، وانتقل الكلام بهذه المناسبة على بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيين في جوهره، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة، وقصر نظرهم على ما يمتاز به كل دين من الفروع والجزئيات، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل فبعد بها كل فريق من الآخر أشد البعد، وصار الدين الواحد كفرا وإيمانا، كل فريق من أهله يحتكر الإيمان لنفسه ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد. وإن كان نبيهم واحدا وكتابهم واحدا...
فقوله تعالى {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين... والحنيف في اللغة: المائل.
وإنما أطلق على إبراهيم. لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر، فخالفهم كلهم وتنكب طريقتهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم، لقصة العهد مع إبراهيم: وقصة البيت الحرام كعبة المسلمين؛ ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين؛ يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين، ويعرض لحججهم وجدلهم ومحالهم، فيبدو هذا كله ضعيفا شاحبا، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل: كذلك تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة لا ينحرف عنها إلا المتعنتون:...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن ملة إبراهيم عليه السلام، وهي التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا، وهي الحق الذي لا ريب فيه، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق، وهو الهداية، كذلك ضلت أفهامهم، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون، ولذا قال تعالى: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} أي قال اليهود: أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم: كونوا هودا، أي كونوا يهودا تهتدوا، لأن الهداية تحوطهم، وهم في قبتها، وقال النصارى المثلثون الوثنيون: كونوا نصارى تهتدوا، لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم، مع أنهم وثنيون، لا يتبعون نبيا مرسلا، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة...
ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين، لأنه من تبليغ رسالة ربه، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها، وإن ذلك الرد كقوله تعالى:
{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [آل عمران 67]...
{وقالوا كونوا} من المقصود بالخطاب؟ المؤمنين.. أو قد يكون المعنى وقالت اليهود للمؤمنين والمشركين والنصارى كونوا هودا.. وقالت النصارى لليهود والمشركين والمؤمنين كونوا نصارى.. لأن كل واحد منهما لا يرى الخير إلا في نفسه.. ولكن الإسلام جاء وأخذ من اليهودية موسى وتوراته الصحيحة. وأخذ من المسيحية عيسى وإنجيله الصحيح.. وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أن الإسلام أخذ وحدة الصفقة الإيمانية المعقودة بين الله سبحانه وبين كل مؤمن.. ولذلك تجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {لا نفرق بين أحدٍ من رسله} (من الآية 285 سورة البقرة).
ونلاحظ أن المشركين لم يدخلوا في القول لأنهم ليسوا أهل كتاب. قوله تعالى: {بل ملة إبراهيم حنيفا}.. أي رد عليهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنني سأكون تابعا لدين إبراهيم وهو الحنيفية.. وهم لا يمكن أن يخالفوا في إبراهيم فاليهود اعتبروه نبيا من أنبيائهم.. والنصارى اعتبروه نبيا من أنبيائهم ولم ينفوا عنه النبوة ولكن كلا منهم أراد أن ينسبه لنفسه...
ولكن كيف يؤتي بلفظ يدل على العوج ويجعله رمزا للصراط المستقيم؟... تتدخل السماء برسول يعالج اعوجاج المجتمع.. ولكن الله تبارك وتعالى وضع عنصر الخيرية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة... قلنا إن الحنف هو الاعوجاج.. ونقول إن الاعوجاج عن المعوج اعتدال.. والرسل لا يأتون إلا بعد اعوجاج كامل في المجتمع.. ليصرفوا الناس عن الاعوجاج القائم فيميلون إلى الاعتدال.. لأن مخالفة الاعوجاج اعتدال...
وقوله تعالى: {حنيفا} تذكرنا بنعمة الله على الوجود كله لأنه يصحح غفلة البشر عن منهج الله ويأخذ الناس من الاعوجاج الموجود إلى الاعتدال.. والهداية عند اليهود والنصارى ومفهومها تحقيق شهوات نفوسهم لأن بشرا يهدي بشرا.. والله سبحانه وتعالى قال: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} (من الآية 120 سورة البقرة)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التمحور والانغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإِنسان الحقّ لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته. الآية الأولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى تَهْتَدُوا}. فيردّ عليهم القرآن مؤكداً أن الأديان المحرّفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإِنسان {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
[و] التدين الخالص هو اتباع الخط التوحيدي الخالص غير المشوب بالشرك. ورعاية هذا الأساس أهم معيار للتمييز بين الأديان الصحيحة والأديان المنحرفة. يعلمنا الإِسلام أن لا نفرق بين الرسل، وأن نحترم رسالاتهم، لأن المبادئ الأساسية للأديان الحقّة واحدة، موسى وعيسى كانا أيضاً من أتباع ملة إبراهيم... أي من أتباع الدين التوحيدي الخالص من الشرك، وإن حرّف المغرضون من أتباعهما ما جاءا به، وجعلوه مشوباً بالشرك. و (كلامنا هذا لا يتنافى طبعاً مَعَ إيماننا بأن البشرية يجب أن تتبع آخر الأديان السماوية أي الإِسلام...