نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِـۧمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (135)

{[5167]}ولما أخبر تعالى أنهم تركوا السنة في تهذيب أنفسهم بالاقتداء في الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم وبين بطلان ما هم عليه الآن من كل وجه وأوضح أنه محض الضلال بين أنه عاقبهم على ذلك بأن صيرهم دعاة إلى الكفر ، لأن سنته الماضية سبقت{[5168]} ولن تجد لسنته تحويلاً أن من أمات سنة أحيى على يديه{[5169]} بدعة عقوبة له . قال الحرالي : لأنهما متناوبان في الأديان تناوب المتقابلات في الأجسام فقال تعالى معجباً منهم عاطفاً على قوله :{ وقالوا لن يدخل{[5170]} }[ البقرة : 111 ] { وقالوا } أي الفريقان من أهل الكتاب لأتباع الهدى

{ كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } أي لم يكفهم ارتكابهم للباطل وسلوكهم طرق{[5171]} الضلال حتى دعوا إلى ما هم عليه ووعدوا بالهداية الصائرة{[5172]} إليه فأمره تعالى بأن يجيبهم أنه{[5173]} مستن بسنة{[5174]} أبيهم{[5175]} لا يحول{[5176]} عنها كما حالوا فقال موجهاً الخطاب إلى أشرف خلقه لعلو مقام ما يخبر به وصعوبة التقيد{[5177]} به على النفس : { قل بل } مضرباً عن مقالهم{[5178]} ، أي لا يكون شيئاً مما ذكرتم بل نكون{[5179]} أو نلابس{[5180]} أنا ومن لحق بي من كمل أهل الإسلام { ملة إبراهيم } ملابسة نصير{[5181]} بها إياها كأننا{[5182]} تجسدنا{[5183]} منها ، وهو كناية عن عدم الانفكاك عنها ، فهو أبلغ مما لو قيل : بل أهل ملة إبراهيم . قال الحرالي : ففيه كمال تسنن محمد صلى الله عليه وسلم في ملته بملة إبراهيم عليه السلام الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر ، وقد ذكر أن الملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا ، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم { حنيفاً }{[5184]} أي ليناً هشاً{[5185]} سهلاً قابلاً للاستقامة مائلاً مع داعي الحق منقاداً له مسلماً أمره إليه ، لا يتوجه إليه شيء من العشاوة{[5186]} والكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والشماخة والطغيان ، وذلك لأن مادة حنف بكل ترتيب تدور على الخفة واللطافة ، ويشبه أن تكون الحقيقة الأولى منها النحافة ، ويلزم هذا المعنى الانتشار والضمور والميل ، فيلزمه سهولة الانقياد والاستقامة ، ويكشفه آية آل عمران ( ولكن كان حنيفاً مسلماً{[5187]} }[ آل عمران : 67 ] فبذلك حاد عن بنيات طرق الخلق في انحرافهم عن جادة طريق الإسلام . وقال الحرالي : الحنيف المائل عن متغير ما عليه الناس عادة إلى ما تقتضيه الفطرة حنان{[5188]} قلب إلى صدق حسه{[5189]} الباطن .

ولما أثبت له الإسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله : { وما كان من المشركين }{[5190]} قال الحرالي : فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك{[5191]} في ثبت{[5192]} الأمور والأفعال والأحوال وفي إفهامه أنه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم في الكمال الخاتم كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم منه في الابتداء الفاتح ، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم :{ قل إن صلاتي }[ الأنعام : 162 ] إلى قوله :{ وأنا أول المسلمين{[5193]} }[ الأنعام : 163 ] فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به ومن سواه فهو منه فيها ، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله{[5194]} ، فمن لم يكن مثلاً من الكافرين فهو من المؤمنين ، لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه ، لما في ذلك من معني إثبات الوصف ونفي مقابله ، ومثل هذا كثير الدور{[5195]} في خطاب القرآن ، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم خفي عن مشاهد{[5196]} العلم ، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس ؛ والفهم من العقل بمنزلة الروح ، فللفهم مدرك لا يناله العلم ، كما أن للروح{[5197]} معتلى لا تصل إليه النفس ، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى على الوجود - انتهى .


[5167]:جميلة توكيدية لما قبلها لأنه قد أخبر بأن كل أحد يختص بكسبه من خير وشر، وإذا كان كذلك فلا يسأل أحد عن عمل أحد، فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كل شاة برجلها تناط... وفي قوله {لها ما كسبت} إلى آخره دلالة على بطلان من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم،وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء –البحر المحيط 1/ 405
[5168]:زيد في م: ولن تجد لسنة الله تبديلا
[5169]:في م: يده
[5170]:زيد في م: الجنة
[5171]:في م: طريق
[5172]:من ظ: وفي بقية الأصول: الصائر -كذا
[5173]:في م: بأنه
[5174]:في مد: لسنة
[5175]:في م و ظ ومد: إبراهيم
[5176]:في ظ: وفي الأصل: تحول، وفي مد يحول – كذا غير منقوط
[5177]:في م: التقييد.
[5178]:وفي م: مقابلهم
[5179]:من م ومد، وفي الأصل: يكون، وفي ظ: يكون
[5180]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: يلابس
[5181]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: بصير
[5182]:من م و مد و ظ، وفي الأصل: كاينا -كذا
[5183]:في مد: تحسدنا- كذا
[5184]:قال أبو حيان في البحر المحيط 1/ 406: وذكر حنيفا ولم يؤنث لتأنيث ملة، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين فكأنه قيل: بل نتبع دين إبراهيم حنيفا، وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه... والحنيف هو المائل عن الأديان كلها – قاله ابن عباس، أو المائل عما عليه العامة – قاله الزجاج، أو المستقيم – قاله ابن قتيبة، أو الحاج – قاله ابن عباس أيضا وابن الحنيفة ... وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق مستقيمي الطريقة حنفاء، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة لما سنه من مناسك الحج والختان وغير ذلك من شرائع والإسلام مما يقتدى به إلى قيام الساعة، وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر، وسمي بالحنيف من تبعه واستقام على هديه، وسمي المنكث عن ملته بسائر أسماء الملل فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي وغير طلك من ضروب النحل –انتهى.
[5185]:في م: مشاهشا، وفي مد: مشا
[5186]:في ظ: عاوة، وفي مد: الغشاوة.
[5187]:سورة 3 آية 67
[5188]:من م و مد، وفي الأصل و ظ: جنان –كذا بالجيم.
[5189]:في م: خشية
[5190]:أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثنا ولا شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ولا شيئا كغير الله وكان في قوله {بل ملة إبراهيم} دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى، لطلك أضرب ببل عنهما فثبت أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ثم كانت تشرك، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين؛ وقيل في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعى اتباع إبراهيم وهو على الشرك- قاله الزمخشري؛ البحر المحيط 1/ 407
[5191]:في م: المشركين
[5192]:في الأصل: تبت -كذا
[5193]:سورة 6 آية 162 و 163
[5194]:في م: مقابلة
[5195]:في م و ظ: الورود.
[5196]:في مد و ظ: شاهد
[5197]:في م: الروح