البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِـۧمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (135)

الحنف : لغة الميل ، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى ، قال الشاعر :

والله لولا حنف في رجله *** ما كان في صبيانكم من مثله

وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة ، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل ، كما سمي اللديغ سليماً .

وقال القفال : الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات .

وقال عمر :

حمدت الله حين هدى فؤادي *** إلى الإسلام والدين الحنيفي

وقال الزجاج : الحنيف : المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه ، وأنشد :

ولكنا خلقنا إذ خلقنا *** حنيفاً ديننا عن كل دين

{ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } : الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وعلى نصارى نجران ، وفيهم نزلت .

كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب ، وأبيّ بن ياس بن أخطب ، والسيد ، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم .

وأو هنا للتفصيل ، كأو في قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } والمعنى : وقالت اليهود كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، فالمجموع قالوا للمجموع ، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين .

وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة } .

{ قل بل ملة إبراهيم } : قرأ الجمهور : بنصب ملة بإضمار فعل .

أما على المفعول ، أي بل نتبع ملة ، لأن معنى قوله : { كونوا هوداً أو نصارى } : اتبعوا اليهودية أو النصرانية .

وأما على أنه خبر كان ، أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملة إبراهيم ، كما قال عدي بن حاتم ، إني من دين ، أي من أهل دين ، قاله الزجاح .

وأما على أنه منصوب على الإعراء ، أي الزموا ملة إبراهيم ، قاله أبو عبيد .

وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي نقتدي ملة ، أي بملة ، وهو يحتمل أن يكون خطاباً للكفار ، فيكون المضمر اتبعوا ، أو كونوا .

ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيقدر بنتبع ، أو تكون ، أو نقتدي على ما تقدم تقديره .

وقرأ ابن هرمز الأعرج ، وابن أبي عبلة : { بل ملة إبراهيم } ، برفع ملة ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي بل الهدى ملة ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته ، أي أهل ملته ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا .

{ حنيفاً } : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم ، أي في حال حنيفيته ، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم .

قال الزمخشري : كقولك رأيت وجه هند قائمة ، وأنه منصوب بإضمار فعل ، حكاه ابن عطية .

وقال : لأن الحال تعلق من المضاف إليه . انتهى .

وتقدير الفعل نتبع حنيفاً ، وأنه منصوب على القطع ، حكاه السجاوندي ، وهو تخريج كوفي ، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين .

وقد تقدم لنا الكلام فيه ، واختلاف الفراء والكسائي ، فكان التقدير : بل ملة إبراهيم الحنيف ، فلما نكره ، لم يمكن اتباعه إياه ، فنصبه على القطع .

أما الحال من المضاف إليه ، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة ، فنحن لا نجيزه ، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه ، أو كالجزء ، أو غير ذلك .

وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب منهج المسالك ) من تأليفنا .

وأما النصب على القطع ، فقد ردّ هذا الأصل البصريون .

وأما إضمار الفعل فهو قريب ، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف ، وذكر حنيفاً ولم يؤنث لتأنيث ملة ، لأنه حمل على المعنى ، لأن الملة هي الدين ، فكأنه قيل : نتبع دين إبراهيم حنيفاً .

وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه .

قال : قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم ، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة ، وإن خالفها بالتذكير ، لأن الملة في معنى الدين .

ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز : { ديناً قيماً ملة إبراهيم } فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة ، فالناصب له هو الناصب للملة ، وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه ، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال .

انتهى كلامه .

وتكون حالاً لازمة ، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية ، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة ، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية .

والحنيف : هو المائل عن الأديان كلها ، قاله ابن عباس ؛ أو المائل عما عليه العامّة ، قاله الزجاج ، أو المستقيم ، قاله ابن قتيبة ؛ أو الحاج ، قاله ابن عباس أيضاً ؛ وابن الحنفية ، أو المتبع ، قاله مجاهد ؛ أو المخلص ، قاله السدّي ؛ أو المخالف للكل ، قاله ابن بحر ؛ أو المسلم ، قاله الضحاك ، قال : فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج ، أو المختتن .

أو الحنف : هو الاختتان ، وإقامة المناسك ، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، عشرة أقوال متقاربة في المعنى .

وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء ، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق ، مستقيمي الطريقة حنفاء ، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة ، لما سنه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، مما يقتدى به إلى قيام الساعة .

وصارت الحنيفية علماً مميزاً بين المؤمن والكافر .

وسمي بالحنيف : من اتبعه واستقام على هديه ، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي ، وغير ذلك من ضروب النحل .

{ وما كان من المشركين } : أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثناً ، ولا شمساً ، ولا قمراً ، ولا كوكباً ، ولا شيئاً غير الله تعالى .

وكان في قوله : { بل ملة إبراهيم } دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى ، ولذلك أضرب ببل عنهما ، فثبت أنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً .

وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين .

وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم ، وهو على الشرك ، قاله الزمخشري .

فإشراك اليهود بقولهم : عزير ابن الله ، وإشراك النصارى بقولهم : { المسيح ابن الله } ، وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان وغيرها .

/خ141