والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . .
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه . وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً . ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره . .
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) . .
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب ? إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة ! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا . . خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا . ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل !
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين . وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير ! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور ?
قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعروة بن الزبير ، والسُّدِّي . وقتادة : جاء أُبي بن خلف [ لعنه الله ]{[24868]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذريه{[24869]} في الهواء ، وهو يقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال : «نعم ، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار » . ونزلت هذه الآيات من آخر " يس " : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ } ، إلى آخرهن .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا عثمان بن سعيد الزيات ، عن هُشَيْم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير{[24870]} ، عن ابن عباس ، أن العاصى{[24871]} بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما أرى ؟{[24872]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم ، يميتك الله ثم يحييك ، ثم يدخلك جهنم » . قال : ونزلت الآيات من آخر " يس " .
ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم ، عن هُشَيْمٍ ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، فذكره ولم يذكر " ابن عباس " {[24873]} .
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن أبي بعظم ففَتَّه وذكر نحو ما تقدم .
وهذا منكر ؛ لأن السورة مكية ، وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة . وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أُبي بن خلف ، أو [ في ]{[24874]} العاص [ بن وائل ] ، {[24875]} أو فيهما ، فهي عامة في كل مَنْ أنكر البعث . والألف واللام في قوله : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ } للجنس ، يعم كل{[24876]} منكر للبعث .
{ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } أي : أولم يستدل مَنْ أنكر البعث بالبدء على الإعادة ، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين ، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين ، كما قال تعالى : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ } [ المرسلات : 20 - 22 ] . وقال { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [ الإنسان : 2 ] أي : من نطفة من أخلاط متفرقة ، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته ؟ كما قال {[24877]} الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا حَريز ، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة ، عن جُبَيْر بن نفير ، عن بُسْر ابن جَحَّاش ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في كفِّه ، فوضع عليها أصبعه ، ثم قال : «قال الله تعالى : ابن آدم ، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك ، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت : أتصدقُ وأنَّى أوان الصدقة ؟ » . ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن جَرير بن عثمان ، به{[24878]} . ولهذا قال : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ؟
{ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب . روي " أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت . وقيل معنى { فإذا هو خصيم مبين } فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه .
هذه الآية قال فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا ؟ وقال مجاهد وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول .
قال القاضي أبو محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله ، وقال من يحيى هذا يا محمد ؟ ولأبي مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في عنقه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين فت العظم «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم »{[9821]} ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيماً مبيناً هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله { ونسي } يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و «الرميم » البالي المتفتت ، وهو الرفات .
لما أُبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالاً كليّاً ، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخاً لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة ، فقيل أريد ب { الإِنسان } أُبيّ بن خلف . وقيل أريد به العاصي بنُ وائل ، وقيل أبو جهل ، وفي ذلك روايات بأسانيد ، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كلُّ واحد من هؤلاء بعضها .
قالوا في الروايات : جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده عَظْم إنسان رميم ففتّه وذرَاه في الريح وقال : يا محمد أتزعم أن الله يُحيي هذا بعد ما أَرَمَّ ( أي بَلِيَ ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم .
فالتعريف في { الإنْسانُ } تعريف العهد وهو الإِنسان المعيّن المعروف بهذه المقالة يومئذٍ . وقد تقدم في سورة مريم ( 66 ) أن قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } نزل في أحدِ هؤلاء ، وذُكر معهم الوليد بن المغيرة . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } في سورة القيامة } ( 3 ) .
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإِنسان ينكرون البعث ، كيف وفيهم المؤمنون وأهلُ الملل ، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العُرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه . فأما قوله تعالى في سورة النحل ( 4 ) { : { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } فهو تعريف الاستغراق ، أي خلق كلَّ إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي .
والمراد بخَصِيمٌ في تلك الآية : أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة ، فالجملة معطوفة على جملة { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم } [ يس : 71 ] الآية . والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفِ عليها . والرؤية هنا قلبية . وجملة { أَنَّا خَلَقْناهُ } سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى : { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم مما عَمِلت أيدينا أنْعاماً } [ يس : 71 ] .
و« إذا » للمفاجأة . ووجه المفاجأة أن ذلك الإِنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقباً منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإِلهية كانت بما بادرَ به حين عقَل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم ير الإنسان} يعني أو لم يعلم الإنسان.
{أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} بيّن الخصومة فيما يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم عن البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ":... أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول: "مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ "أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا، "فإذَا هوَ خَصِيمٌ "يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم، فيقول: مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها.
وقوله: "مُبِينٌ" يقول: يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} هذا يخرّج على الوجهين:
أحدهما: على الخبر أن قد رأى الإنسان أنا قد خلقناه من نطفة، فلا يفكّر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة غير قادر على إعادته.
والثاني: على الأمر بالرؤية والنظر، أي فلير الإنسان، ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة قادر على إعادته أي إعادة الشيء في الشاهد أهون، وأيسر من ابتدائهّ، إذ قد يحتذى، ويصوّر، بعد ما يقع البصر على الشيء، ويرى، ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا ولا تصوير ما لم يعاينوا.
احتج الله عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل واحد أنه كذلك من غير تفكّر ولا تأمّل، والاحتجاج عليهم بالأشياء التي لم يذكر أبلغ وأكثر، نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها، والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم ليعرفوا كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين والبصر والسمع والعقل وجميع الجوارح ما قدروا على درك ذلك، أو لو اجتمعوا ليعرفوا كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم، والقوة التي بها يتقوّون على كل أمر، أن كيف قدر، وقسم على السواء في الجوارح كلها المواد التي بها ينمون، ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض، يزداد قوة على بعض، ونحو ذلك من العجائب، ولا سبيل إلى معرفة ذلك البتة بعد طول التفكر والتأمّل. لكنه احتج بالشيء الظاهر ليدركوا بالبديهة، ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبّر، والله أعلم.
{فإذا هو خصيم مبين} أي جدِل بيّن.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فإذا هو خصيمٌ مبينٌ} أي مجادل في الخصومة مبين للحجة، يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً مذكورا خصيماً مبيناً، فاحتمل ذلك أمرين: أحدهما: أن ينبهه بذلك على نعمه عليه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في الآية دلالة على صحة استعمال النظر، لأن الله تعالى أقام الحجة على المشركين بقياس النشأة الثانية على النشأة الأولى، وأنه يلزم من أقر بالأولى أن يقر بالثانية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{خَصِيمٌ مُّبِينٌ}: ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بِزَعْمِه واستصوابه...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
مخلوق من نطفة ثم يخاصم، فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قبح الله عزّ وجلّ إنكارهم البعث تقبيحاً لا ترى أعجب منه وأبلغ، ودلّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسّة وتغلغله في القحة، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به، وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءهامعنى قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً، رجل مميز منطيق قادر على الخصام، مبين: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى: {أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} ذكر دليلا من الأنفس.
فقال: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} قيل إن المراد بالإنسان أبي بن خلف، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر فهذه الآية رد عليه، إذا علمت عمومها فنقول فيها لطائف:
اللطيفة الأولى: قوله: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا} [يس: 71] معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى: {أولم ير الإنسان} كلام أعم من قوله: {أو لم يروا}؛ لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم، فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن (لا يغفل) هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون. فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإن سائر النعم بعد وجوده.
وقوله: {من نطفة} إشارة إلى وجه الدلالة؛ وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور، كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة، إلى هذا أشار بقوله تعالى: {يسقى بماء واحد} [الرعد: 4].
وقوله: {فإذا هو خصيم مبين} فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة، ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلا يقول إنه استحال وتكون جسما آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم، وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله: {خصيم} أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق؛ لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه.
وقوله: {مبين} إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه؛ لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى: {من نطفة} إشارة إلى أدنى ما كان عليه، وقوله: {خصيم مبين} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} إلى أن قال تعالى:
{ثم أنشأناه خلقا آخر} فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاما إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر} إشارة إلى ما أشار إليه بقوله: {فإذا هو خصيم مبين} أي ناطق عاقل.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أنا خلقناه من نطفة "وهو اليسير من الماء، نطف إذا قطر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الألف واللام في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ} للجنس، يعم كل منكر للبعث.
فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟ كما قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا حَريز، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة، عن جُبَيْر بن نفير، عن بُسْر ابن جَحَّاش؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في كفِّه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: «قال الله تعالى: ابن آدم، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت: أتصدقُ وأنَّى أوان الصدقة؟». ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن جَرير بن عثمان، به
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولاً من التحويل من حال إلى أخرى، فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة، أتبع ذلك دليلاً أبين من الأول فقال عاطفاً على {ألم يروا}: {أولم ير} أي يعلم علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر.
ولما كان هذا المثل الذي قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو -وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من العقل- تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلاً فقال: {الإنسان} أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحداً.
{أنا خلقناه} بما لنا من العظمة.
{من نطفة} أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام.
{فإذا هو} أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه {خصيم} أي بالغ الخصومة.
{مبين} أي في غاية البيان عما يريده حتى أنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
إيرادُ الجملةِ الاسميَّةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
" إذا "هي الفجائية: أي ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه. وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً. ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره.. (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين).. فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا.. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل! والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما أُبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالاً كليّاً، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخاً لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم، وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة، فقيل أريد ب {الإِنسان} أُبيّ بن خلف. وقيل أريد به العاصي بنُ وائل، وقيل أبو جهل، وفي ذلك روايات بأسانيد، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كلُّ واحد من هؤلاء بعضها.
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك؛ لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإِنسان ينكرون البعث، كيف وفيهم المؤمنون وأهلُ الملل، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العُرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه. فأما قوله تعالى في سورة النحل (4) {: {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} فهو تعريف الاستغراق، أي خلق كلَّ إنسان؛ لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي.
والمراد بخَصِيمٌ في تلك الآية: أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة، فالجملة معطوفة على جملة {أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم} [يس: 71] الآية. والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفِ عليها. والرؤية هنا قلبية. وجملة {أَنَّا خَلَقْناهُ} سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى: {أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم مما عَمِلت أيدينا أنْعاماً} [يس: 71].