قوله تعالى : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم } يقول : إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، ونقضوا العهد ، وكنا ذرية من بعدهم ، أي كنا أتباعاً لهم ، فاقتدينا بهم ، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا .
قوله تعالى : { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين ؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد .
( أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا ) . . . [ الآية ] .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي : في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله [ ص ] . " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية . " على هذه الملة " - فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله - [ ص ] : " يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى ، أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله [ ص ] أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فاشتد عليه ، ثم قال : " ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ " . فقال رجل : يا رسول الله . أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : " إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها " . . قال الحسن : لقد قال في كتابه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) . . . الآية .
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم . . الآيات على وجهه لا على سبيل الحال . لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه . وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه . . ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير ، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية . . والله أعلم أي ذلك كان . .
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده . وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة ؛ يخرج بها كل مولود إلى الوجود ؛ فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها ! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال . وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة " الإنسان " وحده ؛ ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله - وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله . موصولة به غير منقطعة عنه ، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه - بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة . .
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود ، واضح الأثر في شكل الكون ، وتنسيقه ، وتناسق أجزائه ، وانتظام حركته ، واطراد قوانينه ، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين . . وأخيراً - حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر - وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته ، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها . .
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون ، وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته - في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة - ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني - الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية - في تقرير هذا الناموس . إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس . واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة ، على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق . والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة ، الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه . كما أنه لايدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه ، واعترافه بوحدانيته ، وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به ؛ وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله - بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة - سارٍ كذلك في كيان الإنسان - بوصفه من كائنات هذا الكون - مستقر في فطرته ، لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به ؛ فهو مدرك بالفطرة ، مستقر في صميمها ، تستشعره بذاتها ، وتتصرف وفقه ، ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد ، فتنحرف عن إدراكها الذاتي له ، وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها ، بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم .
هذا الناموس - بذاته - هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها . ميثاق مودع في كيانها . مودع في كل خلية حية منذ نشأتها . وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات . وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد ، ذي المشيئة الواحدة ، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها . فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها - سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار - لا سبيل إلى أن يقول أحد : إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد ، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد . أو يقول : إنني خرجت إلى هذا الوجود ، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسؤولون وحدهم ولست بالمسؤول ! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة :
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ .
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو . كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية : على هذه الملة - فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله [ تعالى ]{[12297]} إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم{[12298]} الشياطين فاجتالتهم ، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " {[12299]}
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى : أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم ، عن الأسود بن سريع من بني سعد ، قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد عليه ، ثم قال : " ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ " قال رجل : يا رسول الله ، أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : " إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو{[12300]} ينصرانها " . قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] }{[12301]} الآية{[12302]}
وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسماعيل بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن البصري{[12303]} به . وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : حدثنا الأسود ابن سَرِيع ، فذكره ، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك{[12304]}
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم ، عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[ إلى ]{[12305]} أصحاب الشمال ، وفي بعضها{[12306]} الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج ، حدثنا شُعْبة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ " قال : " فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم{[12307]} ألا تشرك بي شيئًا ، فأبيت إلا أن تشرك بي " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة ، به{[12308]}
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن كلثوم بن جابر{[12309]} عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12310]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ، عليه السلام ، بنعمان . يعني{[12311]} عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } إلى قوله : { الْمُبْطِلُونَ }
وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عن محمد بن عبد الرحيم - صاعقة - عن حسين بن محمد المروزي ، به . ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد{[12312]} به . إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا . وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره ، عن جرير بن حازم ، عن كلثوم بن جَبْر ، به . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير{[12313]} {[12314]} هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث ، عن كلثوم بن جبر{[12315]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فوقفه{[12316]} وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع ، عن ربيعة بن كلثوم ، عن جبير ، عن أبيه ، به . {[12317]} وكذا رواه عطاء بن السائب ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعلي بن بَذِيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[12318]} قوله ، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن
عباس{[12319]} فهذا أكثر وأثبت ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن أبي جَمْرَة الضبعي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12320]} قال : أخرج الله ذرية آدم [ عليه السلام ]{[12321]} من ظهره كهيئة الذر ، وهو في آذى من الماء .
وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال : مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم ، [ وهو ]{[12322]} ابن ستة أيام . قال : فقال : يا جابر ، إذا أنت وضعت ابني في لحده ، فأبرز وجهه ، وحُلّ عنه عقده ، فإن ابني مُجْلَس ، ومسئول . ففعلت به الذي أمر ، فلما فرغت قلت : يرحمك الله ، عمّ يُسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في{[12323]} صلب آدم . قلت : يا أبا القاسم ، وما هذا الميثاق الذي أقر به في{[12324]} صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[12325]} ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها{[12326]} إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وتكفل لهم بالأرزاق ، ثم أعادهم في صلبه . فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به ، نفعه الميثاق الأول . ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف{[12327]} به ، لم ينفعه الميثاق الأول . ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر ، مات على الميثاق الأول على الفطرة{[12328]}
فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس ، والله أعلم .
حديث آخر : وقال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد ، حدثنا أحمد بن أبي طيبة ، عن سفيان بن سعيد ، عن الأجلح ، عن الضحاك وعن{[12329]} - منصور ، عن مجاهد - عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : " أخذ من ظهره ، كما يؤخذ بالمشط من الرأس ، فقال لهم : { ألست بربكم قالوا بلى } قَالَتِ الْمَلائِكَةُ { شهدنا أن يقولوا }{[12330]} يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين{[12331]}
أحمد بن أبي طيبة هذا هو : أبو محمد الجرجاني قاضي قومس ، كان أحد الزهاد ، أخرج له النسائي في سننه ، وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه . وقال ابن عَدِيّ : حدث بأحاديث أكثرها{[12332]} غرائب .
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قوله ، وكذا رواه جرير ، عن منصور ، به . وهذا أصح{[12333]} والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح - هو ابن عبادة - حدثنا مالك ، وحدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ : أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أخبره ، عن مسلم بن يَسار الجُهَني : أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } الآية ، فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سُئل عنها ، فقال : " إن الله خلق آدم ، عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " . فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلق الله العبد للجنة ، استعمله بأعمال{[12334]} أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله{[12335]} به الجنة . وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله{[12336]} به النار " .
وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي - والنسائي عن قتيبة - والترمذي{[12337]} عن إسحاق بن موسى ، عن مَعْن . وابن أبي حاتم ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب . وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر . وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، من رواية أبي مصعب الزبيري ، كلهم عن الإمام مالك بن أنس ، به{[12338]}
قال الترمذي : وهذا حديث حسن ، ومسلم بن يَسَار لم يسمع{[12339]} عُمَر . وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة . زاد أبو حاتم : وبينهما نُعَيْم بن ربيعة .
وهذا الذي قاله أبو حاتم ، رواه أبو داود في سننه ، عن محمد بن مصفى ، عن بَقِيَّةَ ، عن عمر ابن جُعْثُم{[12340]} القرشي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن مسلم بن يَسَار الجهني ، عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[12341]} وقد سئل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فذكره{[12342]}
وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي ، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك ، والله أعلم{[12343]}
قلت : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر " نعيم بن ربيعة " عمدًا ؛ لما جهل حاله ولم يعرفه ، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات ، ويقطع كثيرًا من الموصولات ، والله أعلم .
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[12344]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله [ عز وجل ]{[12345]} آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذرّيتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك ، يقال له : داود . قال : رب ، وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة . فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون{[12346]} سنة ؟ قال : أوَ لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته " .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، به . وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه{[12347]}
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنه حدثه عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : " ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك . وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى ، وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب ، لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي . وقال آدم : يا رب ، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك " . ثم ذكر قصة داود ، كنحو ما تقدم{[12348]}
حديث آخر : قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري{[12349]} عن أبيه ، عن هشام بن حكيم ، رضي الله عنه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتبدأ الأعمال ، أم قد قُضِي القضاء ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه " ثم قال : " هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار " .
رواه ابن جرير ، وابن مردويه من طرق عنه{[12350]}
حديث آخر : روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف - عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله الخلق ، وقضى القضية ، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله ، فقال : يا أصحاب اليمين . فقالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . قال : يا أصحاب الشمال . قالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ثم خلط بينهم ، فقال قائل : يا رب ، لم خلطت بينهم ؟ قال : لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم ردهم في صلب آدم [ عليه السلام ]{[12351]} . رواه ابن مردويه{[12352]}
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب [ رضي الله عنه ]{[12353]} في قول الله تعالى{[12354]} { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية والتي بعدها ، قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، الآية . قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرَضِين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، فلا تشركوا بي شيئًا ، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم{[12355]} عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا له يومئذ بالطاعة ، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك . فقال : يا رب ، لو سَويت بين عبادك ؟ قال : إني أحببت أن أشكر . ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول تعالى{[12356]} { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ]{[12357]} } [ الأحزاب : 7 ] وهو الذي يقول : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] }{[12358]} الآية [ الروم : 30 ] ، ومن ذلك قال : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [ النجم : 56 ] ومن ذلك قال : { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ]{[12359]} } [ الأعراف : 102 ] .
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم ، من رواية ابن جعفر الرازي ، به . وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد من علماء السلف ، سياقات توافق هذه الأحاديث ، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها ، وبالله المستعان .
فهذه الأحاديث دالة على أن الله ، عز وجل ، استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر{[12360]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12361]} وفي حديث عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ]{[12362]} وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان ، كما تقدم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي ، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع . وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك ، قالوا : ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } ولم يقل : " من آدم " ، { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل : " من ظهره " { ذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنًا بعد قرن ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] وقال : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ]
ثم قال : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي : أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا وقالا . والشهادة تارة تكون بالقول ، كما قال [ تعالى ]{[12363]} { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } [ الأنعام : 130 ] الآية ، وتارة تكون حالا كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] أي : حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك ، وكذلك{[12364]} قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 7 ] كما أن السؤال تارة يكون بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كما في قوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [ إبراهيم : 34 ] قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا ، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال{[12365]} لكان كل أحد يذكره ، ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد ؛ ولهذا قال : { أَنْ يَقُولُوا }{[12366]} أي : لئلا يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي : [ عن ]{[12367]} التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا }{[12368]} الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تَقُولُوَاْ إِنّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنّا ذُرّيّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : شهدنا عليكم أيها المقرّون بأن الله ربكم ، كيلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه ، أو تقولوا : إنّمَا أشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وكُنّا ذُرّيّةً مِنْ بَعْدِهِمْ اتبعنا منهاجهم أفَتُهْلِكُنا بإشراك من أشرك من آبائنا ، واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحقّ ؟
ويعني بقوله بمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ : بما فعل الذين أبطلوا في دعواهم إلها غير الله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض المكيين والبصريين : «أن يقولوا » بالياء ، بمعنى : شهدنا لئلا يقولوا على وجه الخبر عن الغيب . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة : أن تَقُولوا بالتاء على وجه الخطاب من الشهود للمشهود عليهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقتا التأويل وإن اختلفت ألفاظهما ، لأن العرب تفعل ذلك في الحكاية ، كما قال الله : لَتُبَيّنُنّهُ للنّاس و«ليبيننه » ، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
عُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً ، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به ، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير ، وكلاهما لا ينهض عذراً ، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل .
ومعنى : { وكنا ذرية من بعدهم } كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم ، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل .
و { من بعدهم } نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم . والاستفهام في { أفتهلكنا } إنكاري ، والإهلاك هنا مستعار للعذاب ، والمبطلون الآخذون بالباطل ، وهو في هذا المقام الإشراك .
وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل ، لو خُلي ونفسه ، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر ، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة ، بقصد أو بغير قصد ، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة : أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل ، ونسب إلى أبي حنيفة وإلى الماوردي وبعضضِ الشافعية من أهل العراق ، وعليه أنبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك ، وقال الأشعري : معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكاً بقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو تقولوا} لئلا تقولوا: {إنما أشرك آباؤنا} ونقضوا الميثاق، {من قبل} شركنا، ولئلا تقولوا: {وكنا ذرية من بعدهم}، فاقتدينا بهم... لئلا تقولوا: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون}، يعني أفتعذبنا بما فعل المبطلون، يعني المكذبين بالتوحيد، يعنون آباءهم، كقوله: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف: 23)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرّون بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة:"إنا كنا عن هذا غافلين": إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه، أو تقولوا: "إنّمَا أشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وكُنّا ذُرّيّةً مِنْ بَعْدِهِمْ "اتبعنا منهاجهم "أفَتُهْلِكُنا "بإشراك من أشرك من آبائنا، واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحقّ؟
ويعني بقوله "بمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ": بما فعل الذين أبطلوا في دعواهم إلها غير الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي قبل بعث الرسل وإنزال الكتب لقطع هذا النوع من الشبه على الوجهين اللذين ذكرت [كقوله تعالى]: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله} [طه: 134] وقوله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة} الآية [القصص: 47] وقوله تعالى: {وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15].
ويكون في التأويل الأول ظهور أمر الذّرّية للأولاد في الخروج عن تدبير الآباء والأمهات بقطع الحجاب بهذين الحرفين.
وفي الثاني نزول الكتب وإرسال الرسل مع ما أمكن جعل هذا في التأويلين جميعا، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أو} كراهة {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذرية من بعدهم} فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. كما لا عذر لآبائهم في الشرك -وأدلة التوحيد منصوبة لهم- فإن قلت: بنو آدم وذرّياتهم من هم؟ قلت: عنى ببني آدم: أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبذرياتهم: الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم. والدليل على أنها من المشركين وأولادهم: قوله: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ} والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القرية} [الأعراف: 163]، {وإِذْ قَالَتِ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ} [الأعراف: 164]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الأعراف: 167]، {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171]. {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا} [الأعراف: 175]. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} أي كانوا السبب في شركنا؛ لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنة لنا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... المعنى في هذه الآيات: أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان، إحداهما كنا غافلين، والأخرى كنا تباعاً لأسلافنا فكيف نهلك، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت شهادة بعضهم على بعض أو شهادة الملائكة عليهم لتنقطع لهم هذه الحجج...
أما قوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} قال المفسرون: المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا، لأن آباءنا أشركوا، فقلدناهم في ذلك الشرك، وهو المراد من قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} والحاصل: أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
والمعنى: أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الاعتذار بوجه ما. لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا مساغ له أصلا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} باختراع الشرك فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم، والمراد أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعد ما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير، وكلاهما لا ينهض عذراً، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والمعنى: أخذ عليكم الإقرار، وأنتم ذرية ليتبين أن فطرتكم تناديكم بالإيمان فلا تعتذروا بأن آباءكم كانوا مشركين، وأنتم اتبعتموهم، فإن أوخذتم فإنما تؤاخذون بشركهم، ولكن أخذ عليكم من قبلهم بالإيمان، فأنتم مسئولون عن عهدكم الذي عاهدتم الله تعالى عليه أولا، لا عن تقليدكم لآباءكم، وإنه لا يصح هذا التقليد وفيكم فطرة الإيمان، أتتبعون آباءكم ولو خالفوا الفطرة التي شهدوا فيها بأن الله وحده هو المعبود بحق هو أنكم بمقتضى الفطرة مؤمنون فلم تتبعون آباءكم في كل حال، ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، وخالفوا سنة الفطرة. فإن خالفوها، فإن ذلك لا يخليكم من الإقرار الذي أخذ عليكم...