ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : ( وهديناه النجدين )
. . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود .
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة " النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )[ وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا ] .
{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : الخير والشر . وكذا رُوي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبي وائل ، وأبي صالح ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، وعطاء الخراساني في آخرين .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني بن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنان بن سعد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما نجدان ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " {[30086]} .
تفرد به سنان بن سعد - ويقال : سعد بن سنان - وقد وثقه ابن معين . وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني : منكر الحديث . وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه . وروى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ، ما أعرف منها حديثا واحدا . يشبه حديثه حديثَ الحسن - يعني البصري - لا يشبه حديثَ أنس .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء قال : سمعت الحسن يقول : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يا أيها الناس ، إنهما النجدان ، نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " {[30087]} .
وكذا رواه حبيب بن الشهيد ، ويونس بن عبيد ، وأبو وهب ، عن الحسن مرسلا . وهكذا أرسله قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عيسى ابن عقال{[30088]} عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : الثديين .
وروي عن الربيع بن خُثَيم{[30089]} وقتادة وأبي{[30090]} حازم ، مثل ذلك . ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن عيسى بن عقَال ، به . ثم قال : والصواب القول الأول .
ونظير هذه الآية قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [ سورة الإنسان : 2 ، 3 ] .
وقوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ يقول تعالى ذكره : وهديناه الطريقين ، ونجد : طريق في ارتفاع .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك : نَجْد الخير ، ونَجْد الشرّ ، كما قال : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا وإمّا كَفُورا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله وهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : الخير والشرّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن منذر ، عن أبيه ، عن الربيع بن خثيم ، قال : ليسا بالثديين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمران جميعا ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : نجد الخير ، ونجد الشرّ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عاصم ، قال : سمعت أبا وائل يقول : كان عبد الله يقول في : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : نجد الخير ، ونجد الشرّ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ يقول : الهدى والضلالة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ يقول : سبيل الخير والشرّ .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : الخير والشرّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن الربيع بن خثيم ، عن أبي بُردة ، قال : مرّ بنا الربيع بن خثيم ، فسألناه عن هذه الاَية : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ فقال : أما إنهما ليسا بالثديين .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الخير والشرّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : سبيل الخير والشرّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْن نجد الخير ، ونجد الشرّ .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُمَا نَجْدَانِ : نَجْدُ خَيْرٍ ، وَنجْدُ شَرَ ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشّرّ أحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ » ؟ .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا عطية أبو وهب ، قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا إنّمَا هُمَا نَجْدَانِ : نَجْدُ الخَيْرِ ، وَنَجْدُ الشّرَ ، فَمَا يَجْعَلُ نَجْدَ الشّرّ أحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ » ؟ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الملك ، قال : حدثنا شعبة ، عن حبيب ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يا أيّها النّاسُ إنّمَا هُمَا النّجْدَانِ : نَجْدُ الخَيْرِ ، وَنَجْدُ الشّرّ ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشّرّ أحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أيّها النّاسُ إنّمَا هُمَا النّجْدَانِ ، نَجْدُ الخَيْرِ ، وَنَجْدُ الشّرّ ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشّرّ أحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ » ؟ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا هُمَا نَجْدَانِ ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشّرّ أحَبّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ » ؟ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قاطع طريق الخير والشرّ . وقرأ قول الله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهديناه الثّديين : سبيلي اللبن الذي يتغذّى به ، وينبت عليه لحمه وجسمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا عيسى بن عقال ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْنِ قال : هما الثديان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن المبارك بن مجاهد ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، قال : الثديان .
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا : قول من قال : عُنِي بذلك طريق الخير والشرّ ، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير القولين اللذين ذكرنا والثديان ، وإن كانا سبيلي اللبن ، فإن الله تعالى ذكْره إذ عدّد على العبد نِعَمه بقوله : إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعا بَصِيرا إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إنما عدّد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نِعمه ، فكذلك قوله : وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْن .
واختلف الناس في " النجدين " فقال ابن مسعود وابن عباس والناس : طريق الخير وطريق الشر أي عرضنا عليه طريقهما وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد وقال ابن عباس أيضا والضحاك ( النجدان ) ثديا الأم ، وهذا مثال ، والنجد : الطريق المرتفع وأنشد الأصمعي :
كميش الإزار خارج نصف ساقه *** صبور على الأزراء طلاع أنجد{[11832]}
والهداية : الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه .
والنجد : الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل . فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان ، والطريق قد يكون مُنجداً مصعداً ، وقد يكون غوراً منخفضاً .
وقد استعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز .
واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب{ العَقَبة } [ البلد : 11 ] .
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك .
وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم .
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعَرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلاً على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة ، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهديناه الطريقين ، ونجد : طريق في ارتفاع . واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم : عُنِي بذلك : نَجْد الخير، ونَجْد الشرّ ، كما قال : "إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا وإمّا كَفُورا" ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهديناه الثّديين : سبيلي اللبن الذي يتغذّى به ، وينبت عليه لحمه وجسمه ....
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا : قول من قال : عُنِي بذلك طريق الخير والشرّ ، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير القولين اللذين ذكرنا والثديان ، وإن كانا سبيلي اللبن ، فإن الله تعالى ذكْره إذ عدّد على العبد نِعَمه بقوله : "إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعا بَصِيرا إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ..." إنما عدّد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نِعمه ، فكذلك قوله : "وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْن" . ... .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي بينا له ما عليه وما له، وما يحمد عليه وما يذم، وما يقبح ويجمل... ومكنهم من الفعلين جميعا ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وهديناه } أي بما آتيناه من العقل { النجدين } أي طريقي الخير والشر ، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف ... عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان ، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة ، والنجد لغة الموضع العالي ، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً ، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً ، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى . ...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشر فإن فيه هبوطاً من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعوداً ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وإنما سماهما الله نجدين ، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار ، وإلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها . وفي ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير ، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصل إلى الغاية . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( وهديناه النجدين ) . . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء .... وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة " النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب{ العَقَبة } [ البلد : 11 ] . ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك . وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وأضاف كتاب الله إلى هذه النعم نعمة العقل والتفكير التي أكرم بها الإنسان ، وجعلها وسيلة في متناول يده ، ليميز بها الخير من الشر ، والحق من الباطل ، والضلال من الهدى ، وهذه النعمة التي وهبها له الحق سبحانه هي مناط التكليف والتشريف ، ومناط الثواب والعقاب ، وذلك قوله تعالى : { وهديناه النجدين } ، أي : طبعنا طبيعته على استعداد مزدوج : استعداد للخير إن اختاره ، واستعداد للشر إن أراده ، و " النجدان " نجد الخير ونجد الشر ، أي الطريقان المؤديان إليهما .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
بمعنى أننا منحناه الهداية العقلية التي يتمكن من خلالها من معرفة الخير والشرّ ، ليدخل في عملية التفكير في المقارنة بينهما ، وفي اختيار أيّ واحدٍ منهما لحياته ، ليلتزمه في موقفه كخطٍ عمليٍّ للحياة ، وليتحرك من أجل الدعوة إليه ، فيتحمل مسؤوليته في الالتزام ، وفي الدعوة ، وفي حركة الصراع . وقد ذكر صاحب الميزان ملاحظةً دقيقةً في استفادة المفهوم الجامع بين هذه الآيات الثلاث فقال : «وفي الآيات الثلاث حجّةٌ على قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ }أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ، ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال ، ويميز الخير من الشرّ والحسنة من السيئة .
محصلها : أن الله سبحانه هو الذي يعرّف المرئيات للإنسان بوسيلةٍ عينيّةٍ ، وكيف يتصور أن يعرّفه أمراً وهو لا يعرفه ؟ وهو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام ، وهل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجابٍ عنه ؟ وهو الذي يعلّم الإنسان ويميّز له الخير والشرّ بالإلهام ، وهل يمكن معه ، أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه ؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان ويعلم ما ينويه بعمله ، ويميّز كونه خيراً أو شرّاً ، وحسنةً أو سيّئةً »[ 5 ] ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلاً بالعين واللسان . . . ولذلك تقدم ذكرهما في السياق . . . ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية ، الهداية العقلية والفطرية ( وهديناه النجدين ) ، ويشمل التعبير أيضاً «الهداية التشريعية » التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء . نعم . . . لقد أنعم اللّه على الإنسان بالبصر والبصيرة ، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الانحراف عنه ، كي تكتمل الحجّة على الإنسان . ومع كلّ هذه النعم ، نعم الهداية ، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه . عبارة ( وهديناه النجدين ) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الاختيار وحرية الإنسان ، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء ، لأنّ «النجد » مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً ، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً ، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير . مع ذلك ، فانتخاب الطريق بيد الإنسان . . . الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها . . . في الحلال أو الحرام ، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير » أو «الشر » ...... ولعل تعبير «نجد » وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجوّ أبهج ، وإنّما أطلق النجد للشرور أيضاً من باب التغليب . وقيل أيضاً أنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشرّ وبروزهما ، كبروز وظهور الأرض المرتفعة . ...