وأمام هذه الآيات والهبات ، وما تلاها من تعقيبات ، وفي أشد اللحظات امتلاء بحقيقة الوحدانية ، وحقيقة الألوهية . وحقيقة الربوبية . يجيء التلقين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليعلن للقوم أنه منهي عن عبادة ما يدعون من دون الله ، مأمور بالإسلام لله رب العالمين :
قل : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ، لما جاءني البينات من ربي ، وأمرت أن أسلم لرب العالمين . .
أعلن لهؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله ويجحدون هباته ، أنك نهيت عن عبادة ما يدعون من دون الله . وقل لهم : إنني نهيت وانتهيت ( لما جاءني البينات من ربي )فعندي بينة ، وأنا بها مؤمن ، ومن حق هذه البينة أن أقتنع بها وأصدق ، ثم أعلن كلمة الحق . . ومع الانتهاء عن عبادة غير الله - وهو سلب - الإسلام لرب العالمين - وهو إيجاب - ومن الشقين تتكامل العقيدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَمّا جَآءَنِيَ الْبَيّنَاتُ مِن رّبّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك من قريش إنّي نُهِيتُ أيها القوم أنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ من الاَلهة والأوثان لَمّا جاءَنِي البَيّناتُ مِنْ رَبّي يقول : لما جاءني الاَيات الواضحات من عند ربي ، وذلك آيات كتاب الله الذي أنزله وأمِرْت أنْ أُسْلِمَ لِرَب العَالَمِينَ يقول : وأمرني ربي أن أذلّ لربّ كلّ شيء ، ومالك كلّ خلق بالخضوع ، وأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء .
جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليَجْرُوا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده ، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإِلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حُكم الله فيهم ، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبينّ لهم أنواعاً بمختلف البيان من أدلّة برهانية وتقريبية إقناعية .
وأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة ، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإِلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك ، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوَامر إلهية وزواجر وترغيبات ، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإِلهية والربوبية تفرداً مطلقاً لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل المُلك والمِلك والحَمد ، والنفع والضر ، والكرم والإِعانة وذلك كثير . فكان قوله تعالى : { قُلْ إني نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الذينَ تَدْعُون مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءَني البينات مِن رَّبِي } إبطالاً لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود . وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير .
وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإِلهية تكررت قبل نزول هذه الآية . وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير { إني } على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو : هو يعطي الجزيل ، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم مَنْهيُّون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى الله عليه وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهاماً إلهيا إرهاصاً لنبوءته .
و { لمّا } حرف أو ظرف على خلاف بينهم ، وأيًّا مَّا كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تُشبِهان جملتي الشرط والجزاء ، ولذلك يدعونها ( لمّا ) التوقيتية ، وحصولَ ذلك في الزمن الماضي ، فقوله : { لَمَّا جاءَنِي البينَاتُ من رَّبِي } توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات ، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات .
والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم التعريضُ بنهي المشركين ، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الإِخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعون من دون الله ، يعني : فإذا كنتُ أنا منهياً عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه ، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقاً ليّناً خفياً لاتِّبَاعِه فيما نهى عنه ، كما جاء ذلك صريحاً لا تعريضاً في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه : { يا أبت إني قد جَاءني من العلم ما لم يَأتِك فاتَّبِعْني أهدِك صراطاً سويًّا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا } [ مريم : 43 ، 44 ] وبُني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة .
ومعنى الدعاء في قوله : { الَّذِينَ تَدْعُون } يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء ، وهو القول الذي تسأل به حاجة ، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى : { وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] فيكون العدول عن أن يقول : أن أعبد الذين تعبدون ، تفنناً . و ( مِنْ ) في قوله : { مِن رَّبِي } ابتدائية ، وجعل المجرور ب ( من ) وصف ( رب ) مضافاً إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميراً يعود على اسم الجلالة إظهاراً في مقام الإِضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرَّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله : { وَأُمِرتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَب العالمين } أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته .
والإسلام : الانقياد بالقول والعمل ، وفعله متعدّ ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم ، فأصله : أسلم نفسه أو ذاتَه أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى : { فقل أسلمت وجهي للَّه } ، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى : { فقل أسلمت وجهي لله } في سورة آل عمران ( 20 ) وقوله تعالى : { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } في سورة البقرة ( 131 ) ، وكذلك هو هنا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} وذلك أن كفار مكة من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله، وجدك عبد المطلب، وإلى سادة قومك يعبدون اللات والعزى ومناة، فتأخذ به، فما يحملك على ذلك إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا، فأمروه بترك عبادة الله تعالى، فأنزل الله {قل} يا محمد لكفار مكة: {إني نهيت أن أعبد الذين تدعون} يعني تعبدون {من دون الله} من الآلهة.
{لما جاءني} يعني حين جاءني {البينات من ربي وأمرت أن أسلم} يعني أخلص التوحيد {لرب العالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش "إنّي نُهِيتُ "أيها القوم "أنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ" من الآلهة والأوثان "لَمّا جاءَنِي البَيّناتُ مِنْ رَبّي" يقول: لما جاءني الآيات الواضحات من عند ربي، وذلك آيات كتاب الله الذي أنزله. "وأمِرْت أنْ أُسْلِمَ لِرَب العَالَمِينَ" يقول: وأمرني ربي أن أذلّ لربّ كلّ شيء، ومالك كلّ خلق بالخضوع، وأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} يحتمل وجهين:
أحدهما: إن كان المراد من البيّنات القرآن والآيات التي نزلت معجزة له وعلى ما قاله أهل التأويل، فهو على التأكيد والإبلاغ. وإن كان النهي عن عبادة غير الله تعالى والشرك بالله لازما فهو قبل مجيء الرسل وما أتوا من البينات على ما تقدم.
والثاني: يحتمل قوله: {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} لما جاءني من ربي العقل وما يعرف به ذلك. ويكون قوله: {جاءني} أي ظهر لي كقوله تعالى: {جاء الحق} [الإسراء: 81] أي ظهر الحق.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي أمرت أن أجعل الخلق وكل شيء لله سالما خالصا، لا أشرك فيه غيره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أُمِرْتُ بالتبرِّي عمَّا عبدتم، والإعراض عمّا به اشتغلتم، والاستسلام للذي خلقني، وبالنبوة استخصّني...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: أما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 -96] وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل كان ذكر البينات ذكراً لأدلة أدلة العقل والسمع جميعاً، وإنما ذكر ما يدلّ على الأمرين جميعاً؛ لأن ذكر تناصر أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية.
لما بين صفات الجلال والعظمة قال: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبين أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل.
ولما بين أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال: {وأمرت أن أسلم لرب العالمين} وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه؛ لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه إلا الأفضل الأكمل فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على طاعة الله؛ ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر سبحانه بما دل على استحقاقه إياه، أنتج قطعاً قوله: {قل} أي لهؤلاء الذين يجادلونك في التوحيد والبعث مقابلاً لإنكارهم بالتأكيد.
{إني نهيت} أي ممن لا ناهي غيره، نهياً عاماً ببراهين العقل، ونهياً خاصاً بأدلة النقل.
{أن أعبد} ولما أهلوهم لأعلى المقامات، عبر عنهم إرخاء للعنان بقوله: {الذين تدعون} أي يؤهلونهم لأن تدعوهم، ودل على سفولهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي الذي له الكمال كله، ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعث بشرع أحد بقوله {لما جاءني البينات} أي الحجج الواضحة جداً من أدلة العقل والنقل ظاهرة، ولفت القول إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنه كما يسخف الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه فقال: {من ربي} أي المربي لي تربية خاصة هي أعلى من تربية كل مخلوق سواي، فلذلك أنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد.
ولما أخبر بما يتخلى عنه، أتبعه الأمر بما يتحلى به فقال: {وأُمرت أن أسلم} أي بأن أجدد إسلام كليتي في كل وقت على سبيل الدوام.
{لرب العالمين} لأن كل ما سواه مربوب فالإقبال عليه خسار، وإذا نهى هو صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي ربه لأنه رب كل شيء، كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليَجْرُوا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإِلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حُكم الله فيهم، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها.
{قُلْ إني نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الذينَ تَدْعُون مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءَني البينات مِن رَّبِي} إبطالاً لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود. وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير.
(قل) الخطاب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..} يعني: المسألة ليستْ من عندي، إنما هي نَهْي من الله جاءني في آيات بينات واضحات {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـٰلَمِينَ} أي: أُسْلم قيادي وأمري لرب العالمين سبحانه.
نعم، لأن الإنسان منا حتى في دنيا الناس حينما يكون لا يحسن شيئاً ولا تسعفه أسبابه يلجأ إلى مَنْ يقضي له حاجته ويقدر عليها، كما نذهب مثلاً للمحامي في رَفْع قضية أو نذهب للطبيب للتداوي.. إلخ لأنك لا تستطيع أنْ تدافع عن نفسك أمام القاضي، ولا تستطيع أن تداوي مرضك، فإذا ما ذهبتَ إلى واحد من هؤلاء فلا شكَّ أنك تسلم له زمام أمرك، وتَفوِّضه أنْ يفعل ما يراه صالحاً دون أنْ تناقشه أو تعترض عليه.
إذن: معنى {أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـٰلَمِينَ} يعني: إسلام الزمام من عاجز عن شيء لقادر على هذا الشيء، فإذا أمرك ربك أمراً فخذ الأمر من منطلق إيمانك به، كيف؟ قال: مثل حالي مع الطبيب حين يصف لي الدواء المناسب لحالتي لا أناقشه فيه، ولا أقول له: لم كتبت كذا وتركت كذا؟ حتى حين أسأل عن الدواء أقول: والله كتبهُ لي الطبيب، وألقى التبعة والمسئولية عليه.
فإذا كنت تُسلم أمرك وزمامك للطبيب وهو بشرٌ مثلك يخطئ ويُصيب؛ لأنك رأيت له حكمة فوق حكمتك وعلماً ليس عندك، كيف تفعل هذا معه ولا تفعله مع الله عز وجل، وهو العليم الحكيم القادر؟
إذن: ما أمرك به ربُّكَ فامتثل للأمر ونفِّذ دون نقاش أو اعتراض أو تبرُّم بما قضى عليك به. والحق سبحانه يعلمنا درس التسليم له سبحانه في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكيف أنه أسلم وجهه، وألقى زمام أمره لربه تعالى، حينما أمره بذبح ولده إسماعيل الذي لم يُرزق به إلا على كبر وبعد يأس، لذلك قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ..} [إبراهيم: 39]...
وقوله: {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} نهي لأنه مُحبّ له، فقال له: وجَّه عبادتك لمن يقدر أنْ يفعل لك، وهذا النصح لا يكون إلا من مُحب كما تنصح صاحبك وتدلّه على الخير، ولولا حبك إياه ما نصحته.
وقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـٰلَمِينَ} أسلم قيادي وزمام حركتي في الحياة لربي أفعل ما أمر بفعله، وأنتهي عما نهاني عنه، أمر سكت عنه ولم يقل لي فيه: افعل ولا تفعل فأدخله في مقام المباح، ولو كان أمراً النفس العادية تنفر منه.
وحتى إنْ حكم عليك حكماً ترى فيه مشقة ظاهرية على نفسك فاعلم أنه يريد لك الخير من حيث لا تدري، كما قلنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام...
إذن: أنت في التسليم لله لا تأخذ الفعل لذاته، إنما بضميمة صاحبه، الآمر به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الضروري أن نشير إلى افتراق الأمر والنهي في هذه الآية، فهناك أمر بالتسليم لله جلّ وعلا، ونهي عن عبادة الأصنام، وقد يعود السبب في التفاوت بين النهي والأمر إلى أنّ الأصنام قد تختص بصفة «العبادة» وحسب، لذلك جاء النهي عن عبادتها أما بالنسبة لله تعالى فبالإضافة إلى عبادته يجب التسليم له والانصياع والانقياد إلى أوامره وتعليماته... إنّ أمثال هذه الصيغ والأساليب المؤثرة يمكن أن نلمسها في كلّ مكان من كتاب الله العزيز، فهي تجمع الليونة والأدب حتى إزاء الأعداء والخصوم، بحيث لو كانوا يملكون أدنى قابلية لقبول الحق فسيتأثرون بالأسلوب المذكور. ينبغي أن نلاحظ أيضاً التعبير في قوله تعالى: (إنّي أمرت... إنّي نهيت) أيّ عليكم أنتم أن تحاسبوا أنفسكم من دون أن يثير فيهم حسّ اللجاجة والعناد.
الكلام الأخير في هذه المجموعة من الآيات هو أنّها أعادت وصف الخالق ب «ربّ العالمين» في ثلاث آيات متتالية: تقول أولا: (فتبارك الله ربّ العالمين). ثم: (الحمد لله ربّ العالمين). وأخيراً: (أمرت أن أسلم لربّ العالمين). إنّه نوع من أنواع الترتيب المنطقي الذي يصل بين أجزائها وجوانبها فالآية الأولى تشير إلى البركة وديموميتها، والثانية إلى اختصاص الحمد والثناء بذاته المقدسة دون غيره، وأخيراً تخصيص العبودية وحصرها به دون غيره عزّ اسمه...