إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها ؛ فترتبط هذه بتلك ، حزمة واحدة في السياق ، وحزمة واحدة في الشعور ، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين . فقضية الذبائح هي قضية التشريع . وقضية التشريع هي قضية الحاكمية . وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان . . ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب .
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير . . فهذه وتلك صراط الله المستقيم . والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم . والاستقامة عليهما معاً . . العقيدة والشريعة . . هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام ، وولاية الله لعباده الذاكرين :
( وهذا صراط ربك مستقيما . قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ) . .
هذا هو الصراط . . صراط ربك . . بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة ؛ المبشرة بالنهاية . . هذه هي سنته في الهدى والضلال ؛ وتلك هي شريعته في الحل والحرمة . كلاهما سواء في ميزان الله ، وكلاهما لحمة في سياق قرآنه .
وقد فصل الله آياته وبينها . ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل . فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل . وقلب منشرح مبسوط مفتوح . وقلب حي يستقبل ويستجيب .
لما ذكر تعالى طريقة{[11208]} الضالين عن سبيله ، الصادين عنها ، نبه على أشرف ما أرْسل به رسوله من الهدى ودين الحق{[11209]} فقال : { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا } منصوب على الحال ، أي : هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وهو صراط الله المستقيم ، كما تقدم في حديث الحارث ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[11210]} في نعت القرآن : " هو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم " . رواه أحمد والترمذي بطوله{[11211]} .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } أي : [ قد ]{[11212]} وضحناها وبيناها وفسرناها ، { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي : لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهََذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وهذا الذي بينا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن ، هو صراط ربك ، يقول : طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينا وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه ، فاثبت عليه وحرّم ما حرمته عليك وأحلل ما أحللته لك ، فقد بينا الاَيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته لقوم يذّكّرون ، يقول : لمن يتذكر ما احتجّ الله به عليه من الاَيات والعبر ، فيعتبر بها . وخصّ بها الذين يتذكرون ، لأنهم هم أهل التمييز والفهم وأولو الحجا والفضل ، فقيل : يذّكّرون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَهَذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيما يعني به الإسلام .
{ وهذا إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن ، أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان . { صراط ربك } الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته . { مستقيما } لا عوج فيه ، أو عادلا مطردا وهو حال مؤكدة كقوله { وهو الحق مصدقا } ، أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة . { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه ، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم .
عطف على جملة : { ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً } [ الأنعام : 125 ] إلى آخِرها ، لأنّ هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصّراط المستقيم الّذي لا يجهد متّبعه ، فهذا ضدّ لحال التّمثيل في قوله : { كأنَّما يصّعَّد في السَّماء } [ الأنعام : 125 ] . وتمثيل الإسلام بالصّراط المستقيم يتضمّن تمثيل المسلم بالسّالك صراطاً مستقيماً ، فيفيد توضيحاً لقوله : { يشرح صدره للإسلام } [ الأنعام : 125 ] . وعطفت هذه الجملة مع أنها بمنزلة بيان الجملة التي قبلها لتكون بالعطف مقصودة بالإخبار . وهو اقبال على النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب .
والإشارة ب { هَذا } إلى حاضر في الذهن وهو دين الإسلام . والمناسبة قوله : { يشرح صدره للإسلام } [ الأنعام : 125 ] . والصّراط حقيقته الطّريق ، وهو هنا مستعار للعمل الموصل إلى رضى الله تعالى . وإضافته إلى الربّ لتعظيم شأن المضاف ، فيعلم أنَّه خير صراط . وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول تشريف للمضاف إليه ، وترضية للرّسول صلى الله عليه وسلم بما في هذا السَّنن من بقاء بعض النّاس غير متّبعين دينه .
والمستقيم حقيقته السّالم من العوج ، وهو مستعار للصّواب لسلامته من الخطأ ، أي سَنَن الله الموافق للحكمة والّذي لا يتخلّف ولا يعطّله شيء . ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الحسّ وهو القرآن ، لأنَّه مسموع كقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] ، فيكون الصّراط المستقيم مستعاراً لما يُبلِّغ إلى المقصود النّافع ، كقوله : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] . ومستقيماً حال من « صراط » مؤكّدة لمعنى إضافته إلى الله .
وجملة : { قد فَصّلْنا الآيات } استئناف وفذلكة لما تقدم . والمراد بالآيات آيات القرآن . ومن رشاقة لفظ { الآيات } هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر .
واللاّم في : { لقوم يذكرون } للعلّة ، أي فصّلنا الآيات لأجلهم لأنَّهم الّذين ينتفعون بتفصيلها . والمراد بالقوم المسلمون ، لأنَّهم الّذين أفادتهم الآيات وتذكّروا بها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بينا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن، هو "صراط ربك"، يقول: طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينا وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه، فاثبت عليه وحرّم ما حرمته عليك وأحلل ما أحللته لك، فقد بينا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته "لقوم يذّكّرون"، يقول: لمن يتذكر ما احتجّ الله به عليه من الآيات والعبر، فيعتبر بها. وخصّ بها الذين يتذكرون، لأنهم هم أهل التمييز والفهم وأولو الحجا والفضل، فقيل: يذّكّرون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به محمد عليه السلام، قاله ابن عباس، والصراط: الطريق، وإضافة الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره، و {مستقيماً} حال مؤكدة وليست كالحال في قولك جاء زيد راكباً، بل هذه المؤكدة تتضمن المعنى المقصود. و {فصلنا} معناه بينا وأوضحنا، وقوله {لقوم يذكرون} أي للمؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
ومعنى استقامته: أنه يؤدي بسالكه إلى الفوز...
أما تفصيل الآيات فمعناه ذكرها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي له -مع استجماع الكمالات كلها- صفة العطف والإحسان واللطف، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة "رجس "تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج، وكان التقدير: فهذا حال أهل الضلال، فعطف عليه قوله: {وهذا} أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية {صراط} أي طريق {ربك} أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط {مستقيماً} أي لا عوج فيه أصلاً، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر...
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل، بل لا بد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل: {قد فصلنا} أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة {الآيات} أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر {لقوم يذكرون} أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره -ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام- ليذكروا أنه قال: ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته، هو صراط ربك أيها الرسول الذي بعثك به، وبين لك في هذه الآيات أو هذه السورة أصوله وعقائده بالحجج النيرات، والآيات البينات حال كونه مستقيما في نظر العقل الصحيح ومقتضى الفطرة السليمة من فساد الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء وإنما هو السبيل السواء ومن عرفه تبين له اعوجاج ما عداه من السبل، التي عليها سائر أهل الملل والنحل. {قد فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي قد بينا الآيات والحجج المثبتة لحقيته وأصوله الراسخة، ومحاسن فروعه المثمرة النافعة، لقوم يتذكرون ما بلغوه منها، كلما عرضت الحاجة إليه، فيزدادون بها يقينا ورسوخا في الإيمان، ويدرؤون ما يورد عليهم من الشبهات والأوهام، كما يزدادون إذعانا وموعظة تبعثهم على الأعمال الصالحة، ولذلك خصوا بالذكر دون غيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها؛ فترتبط هذه بتلك، حزمة واحدة في السياق، وحزمة واحدة في الشعور، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين. فقضية الذبائح هي قضية التشريع. وقضية التشريع هي قضية الحاكمية. وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان.. ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب. ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير.. فهذه وتلك صراط الله المستقيم. والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم. والاستقامة عليهما معاً.. العقيدة والشريعة.. هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام، وولاية الله لعباده الذاكرين: (وهذا صراط ربك مستقيما. قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون).. هذا هو الصراط.. صراط ربك.. بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة؛ المبشرة بالنهاية.. هذه هي سنته في الهدى والضلال؛ وتلك هي شريعته في الحل والحرمة. كلاهما سواء في ميزان الله، وكلاهما لحمة في سياق قرآنه. وقد فصل الله آياته وبينها. ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل. فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل. وقلب منشرح مبسوط مفتوح. وقلب حي يستقبل ويستجيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً} [الأنعام: 125] إلى آخِرها، لأنّ هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصّراط المستقيم الّذي لا يجهد متّبعه، فهذا ضدّ لحال التّمثيل في قوله: {كأنَّما يصّعَّد في السَّماء} [الأنعام: 125]. وتمثيل الإسلام بالصّراط المستقيم يتضمّن تمثيل المسلم بالسّالك صراطاً مستقيماً، فيفيد توضيحاً لقوله: {يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125]. وعطفت هذه الجملة مع أنها بمنزلة بيان الجملة التي قبلها لتكون بالعطف مقصودة بالإخبار. وهو اقبال على النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب...
وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول تشريف للمضاف إليه، وترضية للرّسول صلى الله عليه وسلم بما في هذا السَّنن من بقاء بعض النّاس غير متّبعين دينه...
والمراد بالقوم: المسلمون، لأنَّهم الّذين أفادتهم الآيات وتذكّروا بها...
ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لا بد من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب،... {صراط ربّك} أي أنه جاء بها من ناحية الربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومرب وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلة...
فعلى الإنسان إذن أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور أن تسأل نفسك: أنت صنعة من؟ صنعة نفسك؟! لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ لا. وهل ادعى واحد في كون الله وما أكثر ما يدعي أنه خلقك أو خلق نفسه؟ لا. بل أنت وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. {وهذا صراط ربّك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون}، ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال "لقوم "حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر يعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير يعصم كل مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري. وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا...