قوله تعالى : { بينهما برزخ } حاجز من قدرة الله تعالى ، { لا يبغيان } لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه . وقال قتادة : لا يطغيان على الناس بالغرق . وقال الحسن : مرج البحرين يعني بحر الروم وبحر الهند ، وأنتم الحاجز بينهما . وعن قتادة أيضاً : بحر فارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر . قال مجاهد والضحاك : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام .
وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله .
وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجئ مصادفة ولا جزافا . فهو مقدر تقديرا عجيبا . الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض ؛ ويشغل اليابس الربع . وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائما صالحا للحياة .
[ وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع - ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - ] .
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس ؛ وهي التي تعود فتسقط أمطارا يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله . وأعظمها الأنهار . والتوافق بين سعة المحيط وحرارة الشمس وبرودة طبقات الجو العليا ، والعوامل الفلكية الأخرى هو الذي ينشأ عنه المطر الذي تتكون منه كتلة الماء العذب .
وعلى هذا الماء العذب تقوم الحياة ، من نبات وحيوان وإنسان . .
وتصب جميع الأنهار - تقريبا - في البحار . وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض ، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها . ومستوى سطوح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر ، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه ، ولا يغمر مجاريها بمائه الملح ، فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها ! وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله . فلا يبغيان .
وقوله : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ يقول تعالى ذكره : بينهما حاجز وبعدٌ ، لا يُفسد أحدهما صاحبه فيبغي بذلك عليه ، وكل شيء كان بين شيئين فهو برزخ عند العرب ، وما بين الدنيا والاَخرة برزخ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على صاحبه .
قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا فطر ، عن مجاهد ، قوله : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغيانِ قال : بينهما حاجز من الله ، لا يبغي أحدهما على الاَخر .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغيانِ يقول : حاجز .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغيانِ والبرزخ : هذه الجزيرة ، هذا اليبَس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البرزخ الذي بينهما : الأرض التي بينهما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قال : حُجِز المالح عن العذب ، والعذب عن المالح ، والماء عن اليبس ، واليبس عن الماء ، فلا يبغي بعضه على بعض بقوّته ولطفه وقُدرته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قال : منعهما أن يلتقيا بالبرزخ الذي جعل بينهما من الأرض . قال : والبرزخ بعد الأرض الذي جعل بينهما .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : لا يَبْغِيانِ فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يبغي أحدهما على صاحبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى لا يَبْغِيانِ : لا يبغي أحدهما على صاحبه .
قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا فطر ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة مثله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهما لا يختلطان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا يَبْغِيانِ قال : لا يختلطان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يبغيان على اليَبَس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يَبْغِيانِ على اليبس ، وما أخذ أحدهما من صاحبه فهو بغي ، فحجز أحدهما عن صاحبه بقدرته ولطفه وجلاله تبارك وتعالى .
وقال آخرون : بل معناه : لا يبغيان أن يلتقيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَبْغِيانِ قال : لا يبغي أحدهما أن يلتقي مع صاحبه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف البحرين اللذين ذكرهما في هذه الاَية أنهما لا يبغيان ، ولم يخصص وصفهما في شيء دون شيء ، بل عمّ الخبر عنهما بذلك ، فالصواب أن يُعَمّ كما عمّ جلّ ثناؤه ، فيقال : إنهما لا يبغيان على شيء ، ولا يبغي أحدهما على صاحبه ، ولا يتجاوزان حدّ الله الذي حدّه لهما .
والمراد بالبرزخ الذي بينهما : الفاصل بين الماءين الحلو والملح بحيث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره . وذلك بما في كل ماء منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به . وهذا من مسائل الثقل النوعي . وذكر البرزخ تشبيه بليغ ، أي بينهما مثل البرزخ وهو معنى { لا يبغيان } ، أي لا يبغي أحدهما على الآخر ، أي لا يغلب عليه فيُفسدَ طعمه فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي الذي حقيقته الاعتداء والتظلم .
ويجوز أن تكون التثنية تثنية بحرَيْن ملحين معينين ، والتعريف حينئذٍ تعريف العهد الحضوري ، فالمراد : بحران معروفان للعرب . فالأظهر أن المراد : البحر الأحمر الذي عليه شطوط تهامة مثل : جُدّة ويُنبع النخل ، وبحر عُمان وهو بحر العرب الذي عليه حَضْرموت وعَدَن من بلاد اليمن .
والبرزخ : الحاجز الفاصل ، والبرزخ الذي بين هذين البحرين هو مضيق باب المَنْدبَ حيث يقع مرسى عَدَن ومرسى زَيلع .
ولما كان في خلق البحرين نعم على الناس عظيمة منها معروفة عند جميعهم فإنهم يسيرون فيهما كما قال تعالى : { وترى الفلك مواخر فيه } [ النحل : 14 ] وقال : { هو الذي يسيرّكم في البر والبحر } [ يونس : 22 ] واستخراج سمكه والتطهر بمائه . ومنها معروفة عند العلماء وهي مَا لأَمْلاَححِ البحر من تأثير في تنقية هواء الأرض واستجلاب الأمطار وتلقي الأجرام التي تنزل من الشهب وغير ذلك .
وجملة { يلتقيان } وجملة { بينهما برزخ } حالان من { البحرين } .