معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

قوله تعالى : { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهد : بقية الله : أي طاعة الله ، خير لكم إن كنتم مؤمنين بأن ما عندكم من رزق الله وعطائه .

قوله تعالى : { وما أنا عليكم بحفيظ } ، بوكيل . وقيل : إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

84

( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) . .

فما عند الله أبقى وأفضل . . وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده - أي الدينونة له بلا شريك -

فهو يذكرهم بها هنا ، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم ، واتبعوا نصيحته في المعاملات . وهي فرع عن ذلك الإيمان .

( بقية الله خير لكم . . إن كنتم مؤمنين ) . .

ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه ، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا ، كما أنه ليس موكلا بحفظهم من الشر والعذاب . وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم إن هم ضلوا ، إنما عليه البلاغ وقد أداه :

( وما أنا عليكم بحفيظ ) . .

ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر ، وبثقل التبعة ، ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

القول في تأويل قوله تعالى : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { بَقِيّة اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } : ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط ، فأحله لكم ، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان ، { إنْ كُنْتمْ مُؤْمِنِينَ } . يقول : إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وحلاله وحرامه . وهذا قول رُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضىً عند أهل النقل .

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ؛ فقال بعضهم : معناه : طاعة الله خير لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله خير لكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : طاعة الله خَيْرٌ لَكُمْ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : طاعة الله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله خير لكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

وقال آخرون : معنى ذلك : حظّكم من ربكم خير لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : حظكم من ربكم خير لكم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : حظكم من الله خير لكم .

وقال آخرون : معناه : رزق الله خير لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : رزق الله .

وقال ابن زيد في قوله ما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين } ، قال : الهلاك في العذاب ، والبقية في الرحمة .

وإنما اخترت في تأويل ذلك القول الذي اخترته ، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان ، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب ، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة أولى ، مع أن قوله : { بَقِيّةُ } ، إنما هي مصدر من قول القائل : بَقيت بَقِيّة من كذا ، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى : بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسكم إياهم في الكيل والوزن .

وقوله : { وَما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ، يقول : وما أنا عليكم أيها الناس برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم ، وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربي فقد أبلغتكموها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

وقوله : { بقيت الله } قال ابن عباس معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن حير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد : معناه طاعة الله ، وقال ابن عباس - أيضاً - معناه رزق الله ، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية ، وإنما المعنى عندي - إبقاء الله عليكم إن أطعتم . وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة .

وقوله : { إن كنتم مؤمنين } شرط في أن تكون البقية خيراً لهم ، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال ، وجواب هذا الشرط ، متقدم ، و «الحفيظ » المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب ، والمعنى : إنما أنا مبلغ والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (86)

لفظ { بقيت } كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي .

فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشىء عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال . وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال ابن عطاء الله : « من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها » .

وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً } [ مريم : 76 ] .

على أنّ لفظ ( البقية ) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت ( البقية ) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى : { فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } [ هود : 116 ] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي :

إن تذنبوا ثم تأتيني بَقيتكم *** فما عَليّ بِذَنْب مِنكمُ فَوْت

قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خِياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم .

وفي كلمة ( البقية ) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال : ابقوا علينا ، ويَقولون « البقيةَ البقيةَ » بالنصب على الإغراء ، قال الأعشى :

قالوا البقيةَ والهنديُّ يحصدهم *** ولا بقيةَ إلا الثار وانكشفوا

وقال مسور بن زيادة الحارثي :

أُذَكّرُ بالبُقْيَا على مَنْ أصابني *** وَبُقْيَايَ أنّي جاهد غير مؤتلي

والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة ، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال . وكل هذه المعاني صالحة هنا . ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة .

وإضافة ( بقية ) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن . وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به .

ومعنى { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم ، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين .

وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك .

وجملة { وما أنا عليكم بحفيظ } في موضع الحال من ضمير { اعبُدوا } ونظائره ، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله .

والحفيظ : المجبر ، كقوله : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] وتقدم عند قوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } في سورة [ الأنعام : 107 ] . والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر . وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال .