فماذا أنتم فاعلون إذ تبلغ الحلقوم ، وتقفون في مفرق الطريق المجهول ?
ثم يصور الموقف التصوير القرآني الموحي ، الذي يرسم ظلال الموقف كلها في لمسات سريعة ناطقة بكل ما فيه ، وبكل ما وراءه ، وبكل ما يوحيه .
( فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) . .
لنكاد نسمع صوت الحشرجة ، ونبصر تقبض الملامح ، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) . .
وقوله : فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ يقول تعالى ذكره : فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم أيها الناس حلاقيمكم وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ يقول ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذٍ إليهم ينظر ، وخرج الخطاب ها هنا عاما للجميع ، والمراد به : من حضر الميت من أهله وغيرهم وذلك معروف من كلام العرب وهو أن يخاطب الجماعة بالفعل ، كأنهم أهله وأصحابه ، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا ، فيقول : قتلتم فلانا ، والقاتل منهم واحد ، إما غائب ، وإما شاهد . وقد بيّنا نظائر ذلك في مواضع كثيرة من كتابنا هذا .
مقتضى فاء التفريع أن الكلام الواقع بعدها ناشىء عما قبله على حسب ترتيبه وإذ قد كان الكلام السابق إقامةَ أدلة على أن الله قادر على إعادة الحياة للناس بعد الموت ، وأعقب ذلك بأن تلك الأدلة أيدت ما جاء في القرآن من إثبات البعث ، وأنحى عليهم أنهم وضحت لهم الحجة ولكنهم مكابرون فيها ومظهرون الجحود وهم موقنون بها في الباطن ، وكل ذلك راجع إلى الاستدلال بقوة قدرة الله على إيجاد موجودات لا تصل إليها مدارك الناس ، انتقل الكلام إلى الاستدلال على إثبات البعث بدليل لا محيص لهم عن الاعتراف بدلالته .
فالتفريع على جملة { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } [ الواقعة : 62 ] وهو أن عجزهم عن إرجاع الروح عند مفارقتها الجسد ينبههم على أن تلك المفارقة مقدَّرة في نظام الخلقة وأنها لحكمة .
فمعنى الكلام قد أخبركم الله بأنه يجازي الناس على أفعالهم ولذلك فهو محييهم بعد موتهم لإِجراء الجزاء عليهم ، وقد دلكم على ذلك بانتزاع أرواحهم منهم قهراً ، فلو كان ما تزعمون من أنكم غير مجزيين بعد الموت لبقيتْ الأرواح في أجسادها ، إذ لا فائدة في انتزاعها منها بعد إيداعها فيها لولا حكمة نقلها إلى حياة ثانية ، ليجري جزاؤها على أفعالها في الحياة الأولى .
وهذا نظير الاستدلال على تفرد الله بالإِلهية بأنّ في كينونة الموجودات دلائل خِلقية على أنها مخلوقة لله تعالى وذلك قوله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] . ومرجع هذا المعنى إلى أن هذا استدلال بمقتضى الحكمة الإِلهية في حالة خَلْق الإنسان فإن إيداع الأرواح في الأجساد تصرف من تصرف الله تعالى ، وهو الحكيم ، فما نزع الأرواح من الأجساد بعد أن أودعها فيها مدة إلا لأن انتزاعها مقتضى الحِكمة أن تنتزع ، وانحصر ذلك في أن يجري عليها الحساب على ما اكتسبته في مدة الحياة الدنيا .
وهذا كقوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] ، فالله تعالى جعل الحياة الدنيا والآجال مُدَدَ عمل ، وجعل الحياة الآخرة دار جزاء على الأعمال ، ولذلك أقام نظام الدنيا على قاعدة الانتهاء لآجاللِ حياة الناس .
أما موت من كان قريباً من سن التكليف ومَن دونه وموت العَجَماوات فذلك عارض تابع لإِجراء التكوين للأجساد الحية على نظام التكوين المتماثل ، وكذلك ما يعرض لها من عوارض مهلكة اقتضاها تعارض مقتضيات الأنظام وتكوين الأمزجة من صحة ومرض ، ومسالمة وعدوان .
فبقي الإِشكال في جعل { ترجعونها } من جملة جواب شرط { إن } إذ لا يلزم من عدم قدرتهم على صد الأرواح عن الخروج ، أن يكون خروجها لإجراء الحساب . ودفع هذا الإشكال وجوب تأويل { ترجعونها } بمعنى تحاولون إرجاعها ، أي عدمُ محاولتكم إرجاعها منذ العصور الأولى دليل على تسليمكم بعدم إمكان إرجاعها ، وما ذلك إلا لوجوب خروجها من حياة الأعمال إلى حياة الجزاء . وأصل تركيب هذه الجملة : فإذا كنتم صادقين في أنكم غير مدينين فلولا حاولتم عند كل محتضر إذا بلغت الروح الحلقوم أن ترجعوها إلى مواقعها من أجزاء جسده فما صرفكم عن محاولة ذلك إلا العلم الضروري بأن الروح ذاهبة لا محالة . فإذا علمت هذا اتضح لك انتظام الآية التي نُظمت نظماً بديعاً من الإِيجاز ، وأدمج في دليلها ما هو تكملة للإعجاز .
و( لولا ) حرف تحْضيض مستعمل هنا في التعجيز لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حُضّ على فعله فقد أظهر عجزه والفعل المحضوض عليه هو { ترجعونها } ، أي تحاولون رجوعها .
و{ إذا بلغت } ظرف متعلق ب { ترجعونها } مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه .
والضمير المستتر في { بلغت } عائد على مفهوم من العبارات لظهور أن التي تبلغ الحلقوم هي الروح حذف إيجازاً نحو قوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] أي الشمس . و ( ال ) في { الحلقوم } للعهد الجنسي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظهم فقال: {فلولا} يعني فهلا {إذا بلغت} هذه النفس {الحلقوم} يعني التراقي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ" يقول تعالى ذكره: فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم أيها الناس حلاقيمكم.
"وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ" يقول ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذٍ إليهم ينظر، وخرج الخطاب ها هنا عاما للجميع، والمراد به: من حضر الميت من أهله وغيرهم، وذلك معروف من كلام العرب، وهو أن يخاطب الجماعة بالفعل، كأنهم أهله وأصحابه، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلولا إذا بلغت الحلقوم} {وأنتم حينئذ تنظرون}...
يخرج على وجهين: أحدهما: {تنظرون} خروج الروح؛ إنها متى تخرج، فلا يملكون ردها إلى حيث كانت، ولكن ينتظرون خروجها متى تخرج. والثاني: {وأنتم حينئذ تنظرون} على حقيقة النظر، أي تنظرون إلى سلطاني وقدرتي. وقيل: هو من الانتظار، أي تنتظرون أن يحل بكم الموت، وهو ما ذكرنا. وجائز أن يكون قوله: {وأنتم حينئذ تنظرون} لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم في ضيق الحال وإنما يضيق الحال عليهم والأمر عند حلول الموت؛ إذ لا بعث عندهم، فيقول: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} فتشفع لهم الأصنام التي يعبدونها، وترد الروح إلى المكان الذي كانت فيه، فإذا لم تملك ذلك، فكيف عبدتموها؟ والله أعلم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الآية في بيان عجزهم، وذكر قدرته عليهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الحلقوم} مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزاع المرء للموت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فماذا أنتم فاعلون إذ تبلغ الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟ ثم يصور الموقف التصوير القرآني الموحي، الذي يرسم ظلال الموقف كلها في لمسات سريعة ناطقة بكل ما فيه، وبكل ما وراءه، وبكل ما يوحيه. (فلولا إذا بلغت الحلقوم. وأنتم حينئذ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون).. لنكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبض الملامح، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله: (فلولا إذا بلغت الحلقوم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فلو كان ما تزعمون من أنكم غير مجزيين بعد الموت لبقيتْ الأرواح في أجسادها، إذ لا فائدة في انتزاعها منها بعد إيداعها فيها لولا حكمة نقلها إلى حياة ثانية، ليجري جزاؤها على أفعالها في الحياة الأولى.وهذا كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]، فالله تعالى جعل الحياة الدنيا والآجال مُدَدَ عمل، وجعل الحياة الآخرة دار جزاء على الأعمال، ولذلك أقام نظام الدنيا على قاعدة الانتهاء لآجاللِ حياة الناس...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
عندما تصل الروح إلى الحلقوم: من اللحظات الحسّاسة التي تقلق الإنسان دائماً هي لحظة الاحتضار ونهاية العمر، في تلك اللحظة يكون كلّ شيء قد انتهى، وقد جلس أهله وأحبّاؤه ينظرون إليه بيأس كشمعة قد انتهى أمدها وستنطفئ رويداً رويداً، حيث يودّع الحياة دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليه يد العون. نعم، إنّ الضعف التامّ للإنسان يتجسّد في تلك اللحظات الحسّاسة ليس في العصور القديمة فحسب بل حتّى في عالمنا المعاصر، فمع توفّر جميع الإمكانات الطبيّة والفنيّة والوسائل العلاجية فإنّ الضعف يتجلّى في ساعة الاحتضار. وتكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذّبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه: (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله. والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الاحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كلّ شيء، حيث إنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم أي أقاربه سيلاقون نفس المصير...