وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين ، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا ، فحق عليهم العذاب ، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين ، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه :
( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) . .
وهي لمسة قوية للقلب البشري ؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل ، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه ، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك ، وإنما هي أيام يقضيها فيه ، ممتحنا بما يكون منه ، مبتلى بهذا الملك ، محاسبا على ما يكسب ، بعد بقاء فيه قليل !
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري . . فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع . . يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى ، هي صمام الأمن له ، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه .
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض ، وبكل شيء يملكه ، وبكل متاع يتاح له ، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة ؛ ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا ، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه .
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به ، والتي يصورها قول الله سبحانه :
ليجعله شديد التوقي ، شديد الحذر ، شديد الرغبة في الإحسان ، وفي النجاة أيضا من هذا الامتحان ! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية ؛ والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها ! . . فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة . . لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة ، ولا في خلق ، ولا في حركة ؛ كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان !
والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان . ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي ؛ وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة . وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة ، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضا !
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية ، والنظام الإسلامي ، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر ، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان !
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثُمّ جَعَلْناكُمْ أيها الناس خَلائِفَ من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا تخلفونهم فِي الأرْضِ وتكونون فيها بعدهم . لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ يقول : لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم ، تحذون مثالهم فيه ، فتستحقون من العقاب ما استحقوا ، أم تخالفون سبيلهم ، فتؤمنون بالله ورسوله ، وتقرّون بالبعث بعد الممات ، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ ذكر لنا أن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : صدق ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر كيف أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا ، بالليل والنهار والسرّ والعلانية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة بهذا ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه : رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دُلي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دلي فانتشط أبو بكر ، ثم ذرع الناس حول المنبر ، ففضل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال : يا عوف رؤياك ؟ قال : وهل لك في رؤياي من حاجة ، أو لم تنتهرني ؟ قال : ويحك إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فقصّ عليه الرؤيا ، حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع ، قال : أما إحداهنّ فإنه كائن خليفة ، وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم ، وأما الثالثة فإنه شهيد . قال : فقال يقول الله : ثُمّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ فقد استخلفت يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل وأما قوله : «فإنّي لا أخافُ في الله لَوْمَة لائمٍ » فما شاء الله ، وأما قوله : «فانّي شَهِيدٌ » فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به ثم قال «إنّ اللّهَ على ما يَشاءُ قَدِيرٌ » .
{ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر . { لننظُر كيف تعملون } أتعملون خيرا أو شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم ، وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله ، وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى .
عطف على { أهلكنا } [ يونس : 13 ] وحرف ( ثم ) مؤذن ببعد ما بين الزمنين ، أي ثم جعلناكم تخلفونهم في الأرض . وكون حرف ( ثم ) هنا عاطفاً جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم ، ولأنه عوضهم بهم .
والخلائف : جمع خليفة . وتقدم في قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } في سورة [ الأنعام : 165 ] . والمراد { بالأرض } بلاد العرب ، فالتعريف فيه للعهد ؛ لأن المخاطبين خلفوا عاداً وثموداً وطسماً وجديساً وجُرهماً في منازلهم على الجملة .
والنظر : مستعمل في العلم المحقق ، لأن النظر أقوى طرق المعرفة ، فمعنى { لننظر } لنتعلم ، أي لنعلم علماً متعلقاً بأعمالكم . فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي .
و { كيف } اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل ، وهو منصوب ب { ننظر } ، والمعنى في مثله : لنعلم جواب كيف تعملون ، قال إياس بن قبيصة :
وأقبلت والخطى يخطر بيننا *** لا علم مَن جبانها من شجاعها
أي ( لا علم ) جَواب مَن ( جبانها ) .
وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو ممَّا لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم علمها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علماً أزلياً ، كما أن بيت إياس بن قبيصة معناه ليَظهر الجبانُ من الشجاع . وليس المقصود بتعليل الإقْدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنّى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع . وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء } في سورة [ آل عمران : 140 ] .