وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا .
وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ لأنها على غير أساس ، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه ، والتصديق بجزائه هَلْ يُجْزَوْنَ في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر ، لا يرجو فيها ثوابا ، وليس لها غاية تنتهي إليه ، فلذلك اضمحلت وبطلت .
وقوله تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } الآية ، هذه الآية مؤكدة للتي قبلها وسوقها في جملة المكذب به ، ولقاء الآخرة لفظ يتضمن تهديداً أي هنالك يفتضح لهم حالهم ، و { حبطت } معناه سقطت وفسدت ، وأصل الحبط فيما تقدم صلاحه ولكنه قد يستعمل في الذي كان أول مرة فاسداً إذ مآل العاملين واحد ، وقوله { هل يجزون } استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم إلا عقوبة ، وساغ أن يستعمل { حبطت } هنا إذ كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية في طريق صلاح فكأن الحبط فيها إنما هو بحسب معتقداتهم وأما بحسب ما هي عليه في أنفسها ففاسدة منذ أول أمرها ، ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم أي فساداً لكثرة الأكل بعد الصلاح الذي كان أولاً ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «حبَطت » بفتح الباء .
يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة { سأصرف عن آياتي } [ الأعراف : 146 ] إلى آخر الآيات على الوجهين السابقين ويجوز أن يكون معطوفة على جملة { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 146 ] ، ويجوز أن تكون تذييلاً معترضاً بين القصتين وتكون الواو اعتراضية ، وأيّاً ما كان فهي آثارها الإخبار عنهم بأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، فإن ذلك لما كان هو الغالب على المتكبرين الجاحدين للآيات ، وكأن لا تخلو جماعة المتكبرين من فريق قليل يتخذ سبيل الرشد عن حلم وحب للمحمدة ، وهم بعض سادة المشركين وعظماؤهم في كل عصر ، كانوا قد يحسب السامع أنْ ستنفعهم أعمالهم ، أزيل هذا التوهم بأن أعمالهم لا تنفعهم مع التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة ، وأشير إلى أن التكذيب هو سبب حبط أعمالهم بتعريفهم بطريق الموصولية ، دون الإضمار ، مع تقدم ذكرهم المقتضي بحسب الظاهر الإضمار فخولف مقتضى الظاهر لذلك .
وإضافة { ولقاء } إلى { الآخرة } على معنى ( في ) لأنها إضافة إلى ظرف المكان ، مثلُ { عقْبى الدار } [ الرعد : 24 ] أي لقاء الله في الآخرة ، أي لقاء وعده ووعيده .
والحبط فساد الشيء الذي كان صالحاً ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } في سورة المائدة ( 5 ) .
وجملة : { هل يُجْزَون إلاّ ما كانوا يعملون } مستأنفة استينافاً بيانياً ، جواباً عن سؤال ينشأ عن قوله : { حبطت أعمالهم } إذ قد يقول سائل : كيف تحبط أعمالهم الصالحة ، فأجيب بأنهم جُوزُوا كما كانوا يعملون ، فإنهم لما كذبوا بآيات الله كانوا قد أحالوا الرسالة والتبليغ عن الله ، فمن أين جاءهم العلم بأن لهم على أعمالهم الصالحة جزاءً حسناً ، لأن ذلك لا يعرف إلاّ بإخبار من الله تعالى ، وهم قد عطلوا طريق الإخبار وهو الرسالة ، ولأن الجزاء إنما يظهر في الآخرة ، وهم قد كذبوا بلقاء الآخرة ، فقد قطعوا الصلة بينهم وبين الجزاء ، فكان حبط أعمالهم الصالحة وفاقاً لاعتقادهم .
والمراد ب { ما كانوا يعملون } ما كانوا يعتقدون ، فأطلق على التكذيب بالآيات وبلقاء الآخرة فعلُ { يَعملون } لأن آثار الاعتقاد تظهر في أقوال المعتقد وأفعاله ، وهي من أعماله .
والاستفهام ب { هل } مُشْرب معنى النفي ، وقد جعل من معاني ( هل ) النفيُ ، وقد بيناه عند قوله تعالى : { هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون } في سورة النمل ( 90 ) ، فانظره هناك .
{ وما كانوا يعملون } مقدر فيه مضاف ، والتقدير مكافىء ما كانوا يعملون بقرينة قوله : { يُجزون } لأن الجزاء لا يكون نفس المجزي عليه ، فإن فعل جَزى يتعدى إلى العوض المجعول جزاء بنفسه ، ويتعدى إلى العمل المجزي عليه بالباء ، كما قال تعالى : { وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } [ الإنسان : 12 ] ونظير هذه الآية قوله في سورة الأنعام ( 139 ) { سيجزيهم وصفهم . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا}، يعني القرآن، {ولقاء الآخرة}، وكذبوا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {حبطت أعمالهم} التي أرادوا بها وجه الله، لأنها كانت في غير إيمان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحقّ، وكلّ مكذّب حجج الله ورسله وآياته، وجاحد أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته، ومنكر لقاء الله في آخرته، ذهبت أعمالهم فبطلت، وحصلت لهم أوزارها فثبتت، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فصارت أعمالهم عليهم وبالاً.
يقول الله جلّ ثناؤه:"هَلْ يُجْزَوْنَ إلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" يقول: هل ينالون إلا ثواب ما كانوا يعملون، فصار ثواب أعمالهم الخلود في نار أحاط بهم سرادقها، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان دون طاعة الرحمن، نعوذ بالله من غضبه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {حبطت أعمالهم}: المعروف الذي كانوا يفعلون في حال الكفر من نحو صلة الرحم والصدقات وغيره من المعروف، والخيرات التي عملوا بها، حبطت أي حبط ثواب ذلك كله إذا لم يأتوا بالإيمان.
وقوله تعالى: {هل يجزون إلا ما كانوا يعلمون} أي ما: يجزون إلا ما كانوا يعلمون من الاستهزاء بالآيات والاستخفاف.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا إخبار من الله تعالى أن الذين كذبوا بآياته، جحدوا البعث والنشور في الآخرة، وهي الكرة الثانية، لأنه حقيق على من عرف النشأة الأولى ألا ينكر النشأة الأخرى، لأن الذي قدر على الأولى، فهو على الثانية أقدر. وقوله "حبطت أعمالهم "إخبار من الله تعالى أن من كذب بآياته وجحد البعث والنشور تنحبط أعماله، لأنها تقع على خلاف الوجه الذي يستحق بها المدح والثواب، فيصير وجودها وعدمها سواء، والحبوط سقوط العمل حتى يصير بمنزلة مالم يعمل. وقوله "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" أي به، وصورته صورة الاستفهام والمراد به الإنكار والتوبيخ، والمعنى ليس يجزون إلا ما كانوا يعملون إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة...} هذه الآية مؤكدة للتي قبلها وسوقها في جملة المكذب به، ولقاء الآخرة: لفظ يتضمن تهديداً أي هنالك يفتضح لهم حالهم، و {حبطت} معناه: سقطت وفسدت، وأصل الحبط فيما تقدم صلاحه ولكنه قد يستعمل في الذي كان أول مرة فاسداً إذ مآل العاملين واحد، وقوله {هل يجزون} استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم إلا عقوبة، وساغ أن يستعمل {حبطت} هنا إذ كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية في طريق صلاح، فكأن الحبط فيها إنما هو بحسب معتقداتهم، وأما بحسب ما هي عليه في أنفسها ففاسدة منذ أول أمرها...
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله: {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} بين حال أولئك المكذبين، فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب لأن فيهم من يعمل بعض أعمال البر، فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبرا أو متواضعا أو كان قليل الإحسان، أو كان كثير الإحسان، فقال: {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} يعني بذلك جحدهم للميعاد وجرأتهم على المعاصي، فبين تعالى أن أعمالهم محبطة، والكلام في حقيقة الإحباط قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى: {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} وفيه حذف والتقدير: هل يجزون إلا بما كانوا يعملون؟ أو على ما كانوا يعملون...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قال تعالى: {والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون} الآيات في الآية التي قبل هذه بمعنى الدلائل والبينات من براهين عقلية، نظرية كانت أو علمية أو كونية، كآياته تعالى في الأنفس والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام وأظهرها وأقواها القرآن العظيم، من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة تقدم بيانها- وأما الآيات المذكورة في هذه الآية فالظاهر المتبادر أنها الآيات المنزلة من حيث اشتمالها على الهداية والإصلاح بتزكية الأنفس من خرافات الشرك وفساد الأخلاق ومنكرات الأعمال. واللقاء مصدر لقي الشيء أو الشخص ولاقاه كالملاقاة إذا صادفه أو قابله أو انتهى إليه يقال لقي زيدا ولاقاه ولقي خيرا أو شرا {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} [الكهف: 62] و (من يلق خيرا يحمد الناس أمره) ولقي جزاءه. قال الراغب: وملاقاة الله عز وجل عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: {واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223] {وقال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} [البقرة: 249].
والمعنى والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا فلم يؤمنوا لهم ولا اهتدوا بها، وكذبوا بلقاء الآخرة وما يكون فيها من الجزاء على الأعمال –على الخير بالثواب وعلى الشر بالعقاب فاتبعوا أهواءهم- لا يجزون هنالك إلا ما كان من تأثير أعمالهم النفسية والبدنية معا أو النفسية فقط كترك الواجبات في أرواحهم وأنفسهم من حق وخير زكاها وأصلحها أو من باطل وشر دسّاها وأفسدها- إن الله لا يظلم الناس في الجزاء مثقال ذرة وإنما مضت سنته بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه ترتب المسبب على السبب كأنه هو نفسه وقد شرحنا هذا المعنى مرارا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا. وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ لأنها على غير أساس، وقد فقد شرطها وهو الإيمان بآيات اللّه، والتصديق بجزائه هَلْ يُجْزَوْنَ في بطلان أعمالهم وحصول ضد مقصودهم إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمال من لا يؤمن باليوم الآخر، لا يرجو فيها ثوابا، وليس لها غاية تنتهي إليه، فلذلك اضمحلت وبطلت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام!
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.. ولكن كيف تحبط هذه الأعمال؟
من ناحية الاعتقاد.. نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة، أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن..
ومن ناحية النظر.. نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود؛ ولا يتجه الى الغاية الكبيرة التي يتجه اليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول؛ فمآله الى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد!
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله -سبحانه- عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط!
والأمم التي خلت شاهد واقع. ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم، لا يأخذون منهم عبرة، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف.. والله من ورائهم محيط..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وتلك هي العدالة الإلهية في ما يثيب الله أو يعاقب، وفي ما يعطي أو يمنع، فلا نجاة إلا بعمل، ولا هلاك إلا بعمل.