قوله تعالى : { إن الذين اتقوا } ، يعني المؤمنين .
قوله تعالى : { إذا مسهم طائف من الشيطان } ، قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة ، والكسائي : { طيف } ، وقرأ الآخرون { طائف } بالمد والهمزة ، وهما لغتان : كالميت والمائت ، ومعناهما : الشيء يلم بك ، وفرق قوم بينهما ، فقال أبو عمرو : الطائف : ما يطوف حول الشيء ، والطيف : اللمة والوسوسة ، وقيل : الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمس .
قوله تعالى : { تذكروا } ، عرفوا ، قال سعيد بن جبير : هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ ، وقال مجاهد : الرجل يهم بالذنب ، فيذكر الله ، فيدعه .
قوله تعالى : { فإذا هم مبصرون } ، أي يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر ، قال السدي : إذا زلوا تابوا . وقال مقاتل : إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية ، فأبصر فنزع عن مخالفة الله .
ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان ، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته ، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين ، وأن المتقي إذا أحس بذنب ، ومسه طائف من الشيطان ، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه ، وتذكر ما أوجب اللّه عليه ، وما عليه من لوازم الإيمان ، فأبصر واستغفر اللّه تعالى ، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة ، فرد شيطانه خاسئا حسيرا ، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه .
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر ، وتركوا ما عنه زجر ، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي : أصابهم " طيف " وقرأ آخرون : " طائف " ، وقد جاء فيه حديث ، وهما قراءتان مشهورتان ، فقيل : بمعنى واحد . وقيل : بينهما فرق ، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ، ومنهم من فسره بالهم بالذنب ، ومنهم من فسره بإصابة الذنب .
وقوله : { تَذَكَّرُوا } أي : عقاب الله وجزيل ثوابه ، ووعده ووعيده ، فتابوا وأنابوا ، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب . { فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أي : قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه .
وقد أورد{[12558]} الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة إلى النبي{[12559]} صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يشفيني . فقال : " إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك " . فقالت : بل أصبر ، ولا حساب علي .
ورواه غير واحد من أهل السنن ، وعندهم : قالت{[12560]} يا رسول الله ، إني أصرع وأتكشف ، فادع الله أن يشفيني . فقال{[12561]} إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت صبرت ولك الجنة ؟ " فقالت : بل أصبر ، ولي الجنة ، ولكن{[12562]} ادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها ، فكانت لا تتكشف .
وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[12563]}
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة " عمرو بن جامع " من تاريخه : أن شابًا كان يتعبد في المسجد ، فهويته امرأة ، فدعته إلى نفسها ، وما{[12564]} زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل ، فذكر هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فخر مغشيًا عليه ، ثم أفاق فأعادها ، فمات . فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه{[12565]} وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ، ثم ناداه عمر فقال : يا فتى{[12566]} { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] وأجابه الفتى من داخل القبر : يا عمر ، قد أعطانيهما ربي ، عز وجل ، في الجنة مرتين{[12567]}
{ اتقوا } هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم ، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده ، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «طائف » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «طيّف » ، وقرأ سعيد بن جبير «طيْف » ، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء ، وهي ثابتة عن العرب ، وأنشد أبو عبيدة في ذلك :
أنى المَّ بك الخيال يطيفُ*** ومطافه لك ذكرة وشعوف
ف «طائف » اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و «طيّف » اسم فاعل أيضاً كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و «طيّف » يكون مخففاً أيضاً من طيف كميت من ميت ، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر ، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة ، قال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان .
قال القاضي أبو محمد : وكيف هذا وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
وتصبح عن غب السرى وكأنّما*** ألمّ بها من طائف الجن أولق
ومعنى الآية : إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي ، وقوله { تذكروا } إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل ، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها ، وقرأ ابن الزبير «من الشيطان تأملوا فإذا هم » ، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الغضب جند من جند الجن ، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق ؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض ، وقوله { مبصرون } من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.