قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } الآية .
بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُ على حال الرسُول في هذا الباب ؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو{[17108]} ، والكسائيُّ : طَيْفٌ ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل .
فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ ك : بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة : [ الكامل ]
أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ *** ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ{[17109]}
والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : مَيِّت مَيْت ، وفي : لَيِّن لَيْن ، وفي : هَيِّن هَيْن .
ثم " طَيِّف " الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من : طافَ يطيف ، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم .
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء .
والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ ، فقلبت الواو ياءً .
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ .
قال شهابُ الدينِ{[17110]} : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل ، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه .
وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ . وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف ، فيكون ك : قائم وقائلٍ . وأن يكون من : طاف يطيفُ ، فيكون ك : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل : طَيْف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدراً ، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل .
وقال الفارسي{[17111]} : الطَّيْف كالخَطْرة ، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما ، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم ، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان .
قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا ؛ وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا *** ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ{[17112]}
ولا أدري ما تَعَجُّبُه ؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة ، وهي سَقْطة ؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً .
وقال أبُو زيدٍ الأنصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر ، يَطُوف طَوْفاً ، وطَوَافاً ، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم ، وطافَ الخيالُ : ألمَّ يطيف طَيْفاً . فقد فرَّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى ، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت .
وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل ، قال : " لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له " قال : فأما قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقالُ فيه " طَيف " ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة ؛ وقال حسان : [ السريع ]
جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا *** يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ{[17113]}
وقال السدُّ : الطَّيْفُ الجنون ، والطائِفُ : الغضب{[17114]} ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو بمعنى واحد ، وهو النَّزغُ{[17115]} .
قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة .
وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ{[17116]} .
وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه{[17117]} .
{ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } هذه " إذَا " الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر ، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله .
واعلم أنَّ إذَا في قوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } تستدعي جزاءً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.