اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ} (201)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } الآية .

بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُ على حال الرسُول في هذا الباب ؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ .

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو{[17108]} ، والكسائيُّ : طَيْفٌ ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل .

فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه :

أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ ك : بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة : [ الكامل ]

أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ *** ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ{[17109]}

والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : مَيِّت مَيْت ، وفي : لَيِّن لَيْن ، وفي : هَيِّن هَيْن .

ثم " طَيِّف " الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من : طافَ يطيف ، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم .

وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء .

والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ ، فقلبت الواو ياءً .

قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ .

قال شهابُ الدينِ{[17110]} : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل ، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه .

وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ . وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف ، فيكون ك : قائم وقائلٍ . وأن يكون من : طاف يطيفُ ، فيكون ك : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل : طَيْف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدراً ، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل .

وقال الفارسي{[17111]} : الطَّيْف كالخَطْرة ، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما ، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم ، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان .

قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا ؛ وقد قال الأعشى : [ الطويل ]

وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا *** ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ{[17112]}

ولا أدري ما تَعَجُّبُه ؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة ، وهي سَقْطة ؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً .

وقال أبُو زيدٍ الأنصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر ، يَطُوف طَوْفاً ، وطَوَافاً ، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم ، وطافَ الخيالُ : ألمَّ يطيف طَيْفاً . فقد فرَّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى ، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت .

وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل ، قال : " لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له " قال : فأما قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقالُ فيه " طَيف " ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة ؛ وقال حسان : [ السريع ]

جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا *** يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ{[17113]}

وقال السدُّ : الطَّيْفُ الجنون ، والطائِفُ : الغضب{[17114]} ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو بمعنى واحد ، وهو النَّزغُ{[17115]} .

فصل

قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة .

وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ{[17116]} .

وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه{[17117]} .

{ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } هذه " إذَا " الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر ، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله .

واعلم أنَّ إذَا في قوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } تستدعي جزاءً .


[17108]:ينظر: السبعة 301، والحجة 4/120، وحجة القراءات 305، وإعراب القراءات 1/217، وإتحاف 2/73.
[17109]:البيت لكعب بن زهير. ينظر: ديوانه 84 والطبري 13/335، واللسان "ذكر" والكشاف 2/139، وشواهد الكشاف 4/190 والبحر 4/445، والدر المصون 3/308.
[17110]:ينظر: الدر المصون 3/388.
[17111]:ينظر: الحجة 4/121.
[17112]:تقدم.
[17113]:ينظر: ديوانه 184، والبحر المحيط 4/446، والدر المصون 3/389.
[17114]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/156) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/283) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "ذم الغضب" وابن المنذر وأبي الشيخ.
[17115]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/157).
[17116]:ذكره الواحدي في "الوسيط" (2/438) والسمرقندي في "بحر العلوم" تفسير سورة الأعراف آية 202 وأبو حيان في البحر المحيط 4/450، والبغوي في "تفسيره" (2/225).
[17117]:ذكره الواحدي في الوسيط 2/438، والبغوي 2/225، وأبو حيان في البحر المحيط (2/225).