{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } بلاء واختبار وشغل عن الآخرة ، يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام ، { والله عنده أجر عظيم } قال بعضهم : لما ذكر الله العداوة أدخل فيه من للتبعيض ، فقال : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } لأن كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر " من " في قوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب . وكان عبد الله بن مسعود يقول : لا يقولن أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الفضل الفقيه ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الفقيه ، حدثنا أحمد بن بكر بن سيف ، حدثنا علي بن الحسن ، أنبأنا الحسين بن واقد ، عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبا بريدة يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا ، فجاء الحسن والحسين ، وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر ، فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : صدق الله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
وقوله : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يقول تعالى : إنما الأموال والأولاد فتنة ، أي : اختبار وابتلاء من الله لخلقه . ليعلم من يطيعه ممن يعصيه .
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ } أي : يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ+ [ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } والتي بعدها ] [ آل عمران : 14 ، 15 ]{[28930]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حُسَين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بُرَيدة ، سمعت أبي{[28931]} بريدة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : " صدق الله ورسوله ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .
ورواه أهل السنن من حديث حُسَين بن واقد ، به{[28932]} وقال الترمذي : حسن غريب ، إنما نعرفه من حديثه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، حدثنا الأشعث بن قيس قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة ، فقال لي : " هل لك من ولد ؟ " قلت : غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد ، وَلَوَددْتُ أن بمكانه : شبَعَ القوم . قال : " لا تقولن ذلك ، فإن فيهم قرة عين ، وأجرًا إذا قبضوا " ، ثم قال : " ولئن قلت ذاك : إنهم لمجبنة مَحْزنة " تفرد به أحمد{[28933]} رحمه الله تعالى .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمود بن بكر ، حدثنا أبي ، عن عيسى [ بن أبي وائل ]{[28934]} عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة " ثم قال : لا يعرف إلا بهذا الإسناد{[28935]}
وقال الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد{[28936]} حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزًا لك ، وإن قتلك دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالُك الذي ملكت يمينك " {[28937]}
ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد { فتنة } تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «الولد مجبنة »{[11143]} ( مبخلة ) ، وخرج أبو داود حديثاً في مصنفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى أخذهما وصعد بهما ، ثم قرأ : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } الآية ، وقال إني رأيت هذين فلم أصبر ، ثم أخذ في خطبته{[11144]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء ، فأما فتنة الجهال والفسقة ، فمؤدية إلى كل فعل مهلك ، وقال ابن مسعود : لا يقول أحدكم اللهم اعصمني عن الفتنة فإنه ليس يرجع أحد إلى أهل ومال إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن . وقال عمر لحذيفة : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق ، فقال عمر : ما هذا ؟ فقال : أحب ولدي وأكره الموت . وقوله تعالى : { والله عنده أجر عظيم } تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .