{ 37-39 } { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًاوَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ }
أي : قال له صاحبه المؤمن ، ناصحا له ، ومذكرا له حاله الأولى ، التي أوجده الله فيها في الدنيا { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد ، وواصل عليك النعم ، ونقلك من طور إلى طور ، حتى سواك رجلا ، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة ، والمعقولة ، وبذلك يسر لك الأسباب ، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا ، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك ، بل بفضل الله تعالى عليك ، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، وتجحد{[488]} نعمته ، وتزعم أنه لا يبعثك ، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك ؟ ! هذا مما لا ينبغي ولا يليق .
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن ، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار : { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه ، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 280 ] أي : كيف تجحَدُون ربكم ، ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه ، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد ، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات ؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد{[18181]} إيجاده إلى خالقه ، وهو الله ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ؛
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً } .
يقول تعالى ذكره : قال لصاحب الجنتين صاحبه الذي هو أقلّ منه مالاً وولدا ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ : يقول : وهو يخاطبه ويكلمه : أكَفَرْتَ بالّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ يعني خلق أباك آدم من تراب ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول : ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة ، ثم سوّاك رَجُلاً يقول : ثم عَد لك بشرا سويا رجلاً ، ذكرا لا أنثى ، يقول : أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقا جديدا بعد ما تصير رفاتا لَكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي يقول : أما أنا فلا أكفر بربي ، ولكن أنا هو الله ربي ، معناه أنه يقول : ولكن أنا أقول : هو الله ربي وَلا أُشْرِكُ بِرَبيّ أحَدا . وفي قراءة ذلك وجهان : أحدهما لكنّ هو الله ربي بتشديد النون وحذف الألف في حال الوصل ، كما يقال : أنا قائم فتحذف الألف من أنا ، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل العراق . وأما في الوقف فإن القرأة كلها تثبت فيها الألف ، لأن النون إنما شدّدت لاندغام النون من لكن ، وهي ساكنة في النون التي من أنا ، إذ سقطت الهمزة التي في أنا ، فإذا وقف عليها ظهرت الألف التي في أنا ، فقيل : لكنا ، لأنه يقال في الوقف على أنا بإثبات الألف لا بإسقاطها . وقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز : لَكِنّا بإثبات الألف في الوصل والوقف ، وذلك وإن كان مما ينطق به في ضرورة الشعر ، كما قال الشاعر :
أنا سَيْفُ العَشِيرَةِ فاعْرِفُونِي *** حُمَيْدا قد تَذَرّيْتُ السّنامَا
فأثبت الألف في أنا ، فليس ذلك بالفصيح من الكلام ، والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقيين ، وهو حذف الألف من «لكنّ » في الوصل ، وإثباتها في الوقف .
{ قال له صاحبه وهو يُحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك . { ثم من نطفة } فإنها مادتك القريبة . { ثم سوّاك رجلا } ثم عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال . جعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه .
حُكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة ، كما قدمناه غير مرة .
والاستفهام في قوله : { أكفرت بالذي خلقك } مستعمل في التعجب والإنكار ، وليس على حقيقته ، لأن الصاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله له : { ولا أشرك بربي أحداً } . فالمراد بالكفر هنا الإشراك الذي من جملة معتقداته إنكار البعث ، ولذلك عُرّف بطريق الموصولية لأن مضمون الصلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به ، فإنهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق الناس فما كان غير الله مستحقاً للعبادة .
ثم إن العلم بالخلق الأول من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثاني ، كما قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، وقال : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] ، فكان مضمون الصلة تعريضاً بجهل المخاطب .
وقوله : { من تراب } إشارة إلى الأجزاء التي تتكون منها النطفة وهي أجزاء الأغذية المستخلصة من تراب الأرض ، كما قال تعالى في الآية الأخرى { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض } [ يس : 36 ] .
والنطفة : ماء الرجل ، مشتقة من النطف وهو السيلان . و سواك } عدل خلقك ، أي جعله متناسباً في الشكل والعمل .
و ( من ) في قوله : { من تراب ثم من نطفة } ابتدائية ، وقوله : { لكنا هو الله ربي } كتب في المصحف بألف بعد النون . واتفق القراء العشرة على إثبات الألف في النطق في حال الوقف ، وأما في حال الوصل فقرأه الجمهور بدون نطق بالألف ، وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بإثبات النطق بالألف في حال الوصل ، ورسمُ المصحف يسمح بكلتا الروايتين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.