{ وَلِكُلٍّ } منهم { دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } بحسب أعمالهم ، لا يجعل قليل الشر منهم ككثيره ، ولا التابع كالمتبوع ، ولا المرءوس كالرئيس ، كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة ، فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله ، مع أنهم كلهم ، قد رضوا بما آتاهم مولاهم ، وقنعوا بما حباهم .
فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى ، التي أعدها الله للمقربين من عباده ، والمصطفين من خلقه ، وأهل الصفوة من أهل وداده .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فيجازي كلا بحسب علمه ، وبما يعلمه من مقصده ، وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة ، ونهاهم عن الأعمال السيئة ، رحمة بهم ، وقصدا لمصالحهم . وإلا فهو الغني بذاته ، عن جميع مخلوقاته ، فلا تنفعه طاعة الطائعين ، كما لا تضره معصية العاصين .
وقال : وقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي : ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .
قلت : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } [ أي ]{[11237]} من كافري الجن والإنس ، أي : ولكل درجة في النار بحسبه ، كقوله [ تعالى ]{[11238]} { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ] }{[11239]} [ الأعراف : 38 ] ، وقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم ، يا محمد ، بعلم من ربك ، يحصيها ويثبتها لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكلّ عامل في طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله ، يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا . وَما رَبّكَ بغافلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ يقول جلّ ثناؤه : وكلّ ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
احتراس على قوله : { ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم } [ الأنعام : 131 ] للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالببِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم .
والتّنوين في : { ولكل } عوض عن المضاف إليه : أي ولكلّهم ، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات . يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة . فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم . والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة . بعد أن عُذّبوا في الدّنيا . فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب . فتلك درجة نالوها في الدّنيا ، وهي درجة إظهار عناية الله بهم ، وتُرفع درجتهم في الآخرة . والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة . وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة ، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى : { واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] روى البخاري ، ومسلم ، عن ابن عمر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذَا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثمّ بُعثوا على أعمالهم " . وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي في « الشُعب » مرفوعاً أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهللِ نقمته وفيهم الصّالحون قُبضوا معهم ثمّ بُعثوا على نياتهم وأعمالهم ، صحّحه ابن حِبّان . وفي « صحيح البخاري » ، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين ( أي عقد أصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعُقَد بضم العين وفتح القاف ) قِيل : أنهلك وفينا الصّالحون ، قال : نَعَم إذا كثر الخُبْث " .
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى ، في سُلم أو بناء ، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات ، ولذلك قال تعالى : { يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] وقال : { إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار } [ النساء : 145 ] ولمّا كان لفظ ( كلّ ) مراداً به جميع أهل القرية ، وأتى بلفظ { الدّرجات } كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لِتَطمئنّ نفوسُ المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها ، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب : في الدّنيا بالهجرة ، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنَّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين ، ففي هذه الآية إيذان بأنَّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب ، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
وقدْ عُلم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نِذارة المشركين . و { مِن } في قوله { مما عملوا } تعليلية ، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم .
وقوله : { وما ربك بغافل عما يعملون } خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم
وقرأ الجمهور : { يعلمون } بياء الغيبة فيعود الضّمير إلى أهل القرى ، والمقصود مشركو مكّة ، فهو للتّسليّة والتّطمين لئلا يستبطىء وعد الله بالنَّصر ، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب : واسمعي يا جارة . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب ، فالخطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم ، ترشيحاً للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه ، ليكون سَلاً لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم ، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.