القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : ولله من في السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبيد وملك كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول : كلّ له مطيعون ، فيقول قائل : وكيف قيل كُلّ لَهُ قانِتُونَ وقد علم أن أكثر الإنس والجنّ له عاصون ؟ فنقول : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فنذكر اختلافهم ، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول ، فقال بعضهم : ذلك كلام مخرجه مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ومعناه : كلّ له قانتون في الحياة والبقاء والموت ، والفناء والبعث والنشور ، لا يمتنع عليه شيء من ذلك ، وإن عصاه بعضهم من غير ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السّماءُ والأرْضُ بأمْرِهِ . . . إلى كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول : مطيعون ، يعني الحياة والنشور والموت ، وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كلّ له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة كُلّ لَهُ قانِتُونَ : أي مطيع مقرّ بأن الله ربه وخالقه .
وقال آخرون : هو على الخصوص ، والمعنى : وله من في السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال : كلّ له مطيعون . المطيع : القانت ، قال : وليس شيء إلاّ وهو مطيع ، إلاّ ابن آدم ، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله . وفي قوله وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال : هذا في الصلاة ، لا تتكلموا في الصلاة كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة ، قال : وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة ، قال : ويتقابلون في الصلاة ، فإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا : لكي تذهب الشحناء من قلوبنا تسلم قلوب بعضنا لبعض ، فقال الله : وقوموا لله قانتين لا تزولوا كم يزولون . قانتين : لا تتكلموا كما يتكلمون . قال : فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة ، إلاّ هذه الواحدة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أن كلّ من في السموات والأرض من خلق لله مطيع في تصرّفه فيما أراد تعالى ذكره من حياة وموت ، وما أشبه ذلك ، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله ، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه .
وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك ، لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم ، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون ، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي فيه عاص هو ما وصفت ، والذي هو له قانت ما بينت .
اللام في { له } الأولى لام الملك ، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت » إذ «قنت » بمعنى خضع في طاعته وانقياده ، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في الُقَّنت والعموم في كل من يعقل ، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر ، ونحن نجد كثيراً من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال ، فلا بد أن عموم ظاهر هذه الآية معناه الخصوص ، واختلف المتألون في هذا الخصوص أي هو ، فقال ابن عباس وقتادة : هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك ، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن ، وقال ابن زيد ما معناه : إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال { وله من في السماوات والأرض } من ملك ومؤمن{[9305]} .
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة { ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [ الروم : 25 ] فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماءَ والأرض .
فاللام في قوله { وله من في السموات والأرض } لام الملك ، واللام في قوله { كل له قانتون } لام التقوية ، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعاً في العَمل ، وبتأخيره عن معموله . وعليه تكون { مَنْ } صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها . وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر ، فيجوز أن يكون المعنى : أنهم منقادون لأمره . وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيَّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين ، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال ، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيرادَ الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف ؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل ، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها ؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف .
والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] . وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها ، وهم في انحرافهم متفاوتون ؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أنداداً ، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده ، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلاً أو كثيراً ، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه . فجملة { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } معطوفة على جملة { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [ الروم : 25 ] . ويجوز أن تكون جملة { ولَه مَنْ فِي السَّمَاوات والأرض كُل لهُ قانِتُون } تكملة لجملة { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] على معنى : وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون ، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا ، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [ النور : 24 ] ، فتكون الجملة معطوفة على جملة { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] . والقنوت تقدم في قوله { قانتاً لله حنيفاً } في سورة النحل ( 120 ) .