قوله تعالى : { وما كان قولهم } . نصب على خبر كان ، والاسم في أن قالوا : معناه وما كان قولهم عند قتل نبيهم .
قوله تعالى : { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } . أي : الصغائر .
قوله تعالى : { وإسرافنا في أمرنا } . أي : الكبائر .
قوله تعالى : { وثبت أقدامنا } . كي لا تزل .
قوله تعالى : { وانصرنا على القوم الكافرين } . فيقول : فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم ، فقال : { وما كان قولهم } أي : في تلك المواطن الصعبة { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف : هو مجاوزة الحد إلى ما حرم ، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان ، وأن التخلي منها من أسباب النصر ، فسألوا ربهم مغفرتها .
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر ، بل اعتمدوا على الله ، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين ، وأن ينصرهم عليهم ، فجمعوا بين الصبر وترك ضده ، والتوبة والاستغفار ، والاستنصار بربهم ،
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله ، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ، ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة ، ولتعترف بالذنب والخطيئة ، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء :
( وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين ) . .
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدبا مع الله ، وهم يتوجهون إليه ، بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب ، وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول ، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم هضما لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالها والاستغفار عنها ، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة ، فيكون أقرب إلى الإجابة ، وإنما جعل قولهم خيرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث .
وقوله تعالى : { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } الآية عطف على { فما وهنوا } لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله ، ولا بَدَر منهم تذمّر ، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا : { وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر ، وفي « الموطأ » ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول : دعوت فلم يُستجب لي " فقصر قولهم في تلك الحالة الَّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم : { ربنا اغفر لنا } إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهمّ أنَّهم قالوا أقوالاً تنبىء عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشكّ في النَّصر ، أو الاستسلام للكفار .
وفي هذا القصر تعريض بالَّذين جزِعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان .
وقدّم خبر ( كان ) على اسمها في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } لأنَّه خبر عن مبتدأ محصور ، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } فالقصر حقيقي لأنَّه قصر لقولهم الصّادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص ، تقييداً منطوقاً به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث ، بخلاف إضافة المصدر الصّريح ، وذلك جائز في باب ( كان ) في غير صيغ القصر ، وأمَّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور .
والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبَّاس وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : أمرْنا ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر . ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدوّ ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر ، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين : باطنٍ وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.